الموجة الفرنسية الجديدة / قبلة الفرنسيين
على جبين السينما العالمية ..
مقدمة عن الموجة الفرنسية الجديدة ..
تعتبر الموجة الفرنسية الجديدة أحد أهم
المدارس السينمائية وأكثرها رسوخاً وقيمة , ظهرت الموجة في نهايات العقد الخمسيني
وتحديداً في عام 1958 . آذ تعتبر المجلة السينمائية الشهيرة ( دفاتر السينما )
البوابة التي ولدت منها الموجة برئاسة بازان في ذلك الحين . تعد الموجة انتفاضة
لمجموعة من النقاد الشبان الذين حاولوه أن يبرزُ تمردهم على القالب الاعتيادي
المتخذ من قِبل الصناعة السينمائية الفرنسية . والبحث عن أساليب جديدة ومنهج مختلف
في تغيير المسرب الناتج عن اللغة للمناهج المقدمة . أن كان شكلاً آو نوعاً .. من
أهم صناع الموجة الجديدة _ جان لوك غودار , فرانسوا تروفو , اريك رومير , كلود
شابرول , آلان رينيه , أنيس فاردا , جاك روزيه , روجية فادم , جاك ريفيت .. الخ .
حيث تمكنت تلك الفئة من الشبان على تقديم الموجة للعالم , والتي كانت بدايتها مع ما
قدمه كلود شابرول في (سيرج الجميل) , وفي ذات العام قدم تروفو احد أهم أعمال الموجة
من خلال رائعته 400 ضربة والتي لاقت حفاوة نقدية واسعة . أما غودار فنبرى بعد عام
من عمل تروفو ليفك الستار عن فلمه (منقطع ألأنفاس ) الذي لقي ترحيب تجاري ونقادي
واسع لا يقل عن ما قدمه زميلة تروفو في 400 ضربة .
أراء حول الموجة :
تنقسم الآراء النقدية حول الموجة
الفرنسية إلى عدة وجهات نظر . والتي برزت في العديد من المقالات النقدية والكتب
السينمائية والتي تصدر إلى يوماً هذا , فمن تلك الآراء التي تضع الموجة في منصة
الاتهام كونها تيار سينمائي لم يأتي بالشيء الهام والجديد , بل أنها سبب رئيسي في
تراجع السينما الفرنسية في مطلع العقد السبعيني وذلك لتأثر الصناع الشبان بروادها
ومحاولتهم صناعة صورة منسوخة عما يقدموه و هذا الأمر الذي شابه العديد من الصعوبات
وفشل ذرع قاد إلى نكسة في الفن الفرنسي . ناهيك عن الاتهامات التي طالت الموجة حول
محاولتها قولبة موجات سينمائية هامة كانت مرادفة لها مثل سينما الفيلم الأسود
(النوار) الأمريكية وسينما الواقع الايطالية. أما الجبهة الثانية فاعتبرت انه
الموجة الفرنسية الجديدة موجة جمالية ذات كيان متفرد وخاص , ولقبوها بالمدرسة
السينمائية ذات النتاج الفلسفي والفكري المتحرر , والتي كسرت الحد الفاصل بين سينما
الهواة والاحترافية والتي خلقت من بينها العديد من الصناع الهاميين والبارزين وعدة
أسماء في الفئة التمثيلية , كونها كانت تستقطب كوادر هاوية , وتقدمها كشخصيات
رئيسية في إعمالها . ويَجدر بذكر أن للموجة الفضل في وضع عدد من المصطلحات
السينمائية الهامة , كمصطلح سينما المؤلف _ تلاشي مفهوم المؤلف ويصبح المخرج هو
كاتب السيناريو _ وأيضاً خروج المشاهد من بين الاستوديوهات إلى الشوارع الباريسية
واستخدام اقل معايير من المؤثرات الفنية والتسجيل المباشر لصوت واستخدام الإضاءة
الطبيعية , ولن أغض النظر عن كسر أهم أسس المونتاج من خلال تغيير أسلوب تقطيع
المشاهد ومحاولة الارتجال في الحوار والأداء .
تجربة شخصية ( رأي خاص لكاتب المقال ) :
من خلال متابعتي للعديد من إعمال الموجة
الفرنسية وقراءة عدة مرجعيات وكتب تتحدث عن هذا التيار السينمائي , أجد انه الموجة
تستحق أن توصف بالمدرسة السينمائية , أسوه بالعديد من المدارس السينمائية الأخرى
مثل التعبيرية والسريالية والتجريدية وحتى الواقعية وسينما الفيلم الأسود . ودليل
ذلك ان لهذا اليوم ما زالت الموجة حاضرة في العديد من الملتقيات السينمائية وبين
مختلف النقاد , والاهم انه ما زالت إلى اليوم تؤثر في الصناعات السينمائية في مختلف
دول العالم . أرى أن الموجة هي شخصنه ذات خصوصية فريدة أكثر من تيار سينمائي ذو
معايير آو ركائز وأسس ثابتة . ولو لاحظنا أن ولادة واندثار الموجة مقرون بتلك
الأسماء التي فجرت أول معالمها . ولهذا قلت أنها موجة شخصية , متعلقة بعدة أسماء .
ولهذا الى يومنا هذا لم تتم تعريف الموجة بشكل حرفي من قبل صناعها , بل انهم في
معظم احاديثهم عن الموجة لم يتطرقو الى تعريف كامل لها ولم يظهرو السمات البارزة
والمتفردة بها . رغم محاولة النقاد في تشكيل وبلورة صورة عن أهم أطرها . ومن هنا
يأتي الاختلاف النقادي حولها . وبنسبه لي اجد ان المدرسة الفرنسية الجديدة حالة
تعكس تلك الفئة من الصناع . هي امتداد لهم ومرآة لواقعهم ولذكرياتهم وافكارهم
الشخصية وادراكهم لمعالم الحاضر والمستقبل وحتى انها تعبر عن ما في نفوسهم من
فلسفات عن الحياة . واذكر من هذا المنطلق ما قدمة فرانسوا تروفو في فلمه (400ضربة )
والذي تم تصوير في الحي الذي نشأ فيه مخرج العمل وأعترف فيه تروفو انه يتحدث عن
ذكريات ضبابية اعتاشها بشكل شخصي , ومن ذات المنطلق اذكر محاولة تروفو ذاته على
اقتباص رواية الخيال العلمي (فهرنهايت 451) والتي ابتعدت عن الخيال العلمي وحاولت
ان تسرد مؤامرة الحضارة والنظام حول تدمير الواعز الفكري والثقافي لدى الشباب من
خلال مشاهد مطولة لحرق مجموعة من الكتب الهامة ومنها المجلة السينمائية التي ولدت
من خلالها الموجة _كراسات السينما_ . أما بنسبة لاحد اهم صناع الموجة (جان لوك
غودار) والذي اعتقد انه الاكثر تأثير في مسارها وجنوحاً عنه رفقاءه وأخلاصاً لأسسها
, فقد حاول ان يخترق كافة الاشكال الفكرية والفلسفية التي توغل في نفسه من خلال
انتقاد لاذع للرأسمالية الامريكية وتلوث الفكر الشبابي والعولمة وانتهاك الاخلاق
الانسانية واغتصاب الروح وتهميش الهوية الشخصية وبعث الايدلوجية الراديكالية في ما
يقدمة , جان لوك غوادر يحتفي بالسينما المشهدية فهو رائدها ويغلف سينما بسخرية
جارفة من كافة امور الحياة وحتى السينما , فهو كما ذكر في احد مقولاته ( انتقد
الحياة وصناعة السينما من خلال صناعتي لسينما ) , ناهيك عن الاحترافية في تقديم
السينما كلغة تجريبية والبحث عن الفن التجريدي من خلال عكس التخمة الفكرية والفنية
في عقلية هذا الصانع من خلال مشاهد تحتفي بجمالية الصورة . والحديث يطول عن ابرز
تلك الحالة التي طفت على ابرز مؤسسي الموجة وبتالي انعكس على اعمالهم . كما ذكرت
الموجة حالة شحصية لصناعها في بداية المقال وهو ماجعل الصناع يختارون ابرز الممثلين
والممثلات من خلال علاقات شخصية , ولهذا ارى ان الانفعالات الناتجة عن تأثر الموجة
الجديدة بكل من سينما النوار الهوليودية والواقعية الايطالية خلقتها الاراء الشخصية
لهذه الكوكبة من الصناع . ومن هذا المنطلق اتخذ انه الموجة لم تعكس التيارت التي
سبق اثرها بغرض عمل نسخة مطابقة بشكل مجدد كما اردفت في الجزء السابق من المقال بل
هي حالة من الانكباب على تعظيم تلك الموجات والتهليل لها ومنحها شرف التكريم . أجد
انه الموجة وظفت العديد من الأسس التي بدت لي ذات اهمية ومتفرده عن غيره من الموجات
. فأستطاع الموجة ان تجعل من الصناعة السيمائية ذات صفة فنية من خلال جعل المخرج
كاتب وملتقط الصورة في ذات آلان , والابتعاد عن النماذج الاعتيادية والقوالب
المستهكلة لتصنيف المتعافرة في السينما . ناهيك استغلالها لأرض الواقع البحت
والشارع الدرامي ومحاولتها رسم ابرز الاقتباصات النصية من الاعمال الادبية مما
يجعلها ناقلة للجانب الثقافي للمتلقي بقالب بسيط وممتع وساخر في بعض الاحيان . يؤخذ
العديد من صناع السينما على الموجة محاولاتها الدوران حول الافكار الهامه وعدم
التعمق فيها بشكل اللازم والطرح العبثي والتقطيع المزعج للأحداث والاختلال في
التسلسل الحدثي لنص مما يجعل السيناريو ذات طابع عبثي غوغائي مما يشكل صعوبة عند
المشاهدين في تلقية بشكل مريح ومثالي , وارى ان تلك الحالة حقيقة لا شك فيها منوطة
بعدد من الصناع بشكل خاص ولا تشمل كافة اعمال الموجة , ومع انني اعلم يقيناً ان
الموجة تميل الى بعث الافكار بشكل ضبابي , والتقديم العشوائي الا انني وجدت ان تلك
السمة جعلت من الموجة كالريح التي تضرب الستار بخفة لتقوم بازاحته بشكل بسيط جاعلة
لأشعة الشمس تضرب زوايا الغرفة بخفة وجمال متناهي . مما يجعل المشاهد اكثر انفتاحاً
وحرية لتلقي الفكرة والغوص فيها بشكل شخصي مما يجعل الصناعة السيمنائية اكثر افقاً
وجنون وبهجه للمتابع ..
الموجة الجديدة . هي حالة خلاقة قادرة على بسط متعة على
ذات المشاهد .والقاء شتى الافكار والمرور على المفصليات الفكرية والثقافية
والمنوطة بصناعها . وخلق حالة من الجمال التصويري والحرية والخيال والواقع في ذات
اللحظة . والتي تخللها العديد من المؤثرات التقنية والفنية . ولن اتناسى انه الموجة
احتفت بالشعرية الفرنسية والغموض والجريمة النوارية وواقعية الشارع وقدمت جزء من
اعمالها بمنحى السريالية ودعمت التجريبية . وخلقت فارق هام وبارز في تاريخ السينما
العالمية .
حكايات الموجة الفرنسية " في عشرة أفلام "
1- منقطع الأنفاس / جان لوك
غودار
À bout de souffle - 1960
يكمن في هذا العمل العديد من المفارقات
الهامة والتي من خلالها أرست المفهوم العام للموجة الفرنسية . فأستطاع جان لوك
غوادر أن يخلق مزيج مثير ما بين الحبكة الدرامية النوارية والسينما الساخرة والقالب
الدرامي الناقد للمجتمع والفرد . غوادر خلق حالة من الشعرية والعاطفية بين فتاه
جامعية أمريكية تبيع الصحف في احد شوارع باريس وبين مجرم فار من العدالة بعد قتله
احد رجال الشرطة الفرنسية . غوادر يحتفي ساخراً بالجريمة الهيتشكوكية والعُقد
الإجرامية ,, ويسرح بعيداً بين مرايا غرفة تلك الفتاه الشابة (جين أسبيرغ ) والتي
تظهر أنها تستغل جاذبيتها وسحرها على هذا الشاب المهووس فيها . تلك العلاقة التي
كانت تبرز حالة من تأثير الأنثى على الذكر أو تأثير الأيدلوجية الرأسمالية والمصالح
الشخصية على العلاقات العاطفية واندثار المعنى الأخلاق . جان لوك غوادر يقدم
مجموعة من علامات التساؤل حول تلك الضبابية وأحيانا السطحية حول شخوصه . فتلحظ أن
كل ما يعاث العمل هامشي وفارغ ماعدا جزء من المشاهد العاطفية الرائعة بين الشابة
الأمريكية (جين اسبيرغ ) والشاب (جان بول دايموند) والتي تعبر عن الجزء الأكثر
سامية وعذوبة بالعمل . رغم تلك الحوارات الواقعية والساخرة الجذابة المتبادلة
بينهما . (منقطع الأنفاس ) حالة من الجري والجري حول مواكبة المجتمع والسير في ركبة
. و تعمل تلك الحالة على قطع أنفاس الفرد وتلاشي معالمه واختناق روحة وانعدام هويته
ليصبح مجرد نسخة مطابقة لكافة القطعان البشرية التي تسير فيه . _وهذا ما جعل تلك
الفتاه تلمس شفتيها مقلدة لعادة ذلك الشاب في خاتمة العمل _ في فكرة تعبر أن
المجتمع يغتصب الأفراد يفك بكارة عذريتهم ويؤدي بطموحاتهم وأخلاقهم وأحلامهم إلى
حافة الهلاك . اعتبر أن عمل غودار هذا أهم أعمال الموجة من الناحية التقنية فمن
خلاله ظهرت العديد من المفاهيم التقنية ومنها سينما المؤلف وتداخل التسلسل النصي
والتفكيك ألنهجي وغيرها .
2 - هورشيما محبوبتي / آلان رينيه
Hiroshima Mon Amour - 1959
يخلق آلان رينيه حالة فرية مابين السريالية
والواقعية في عمل مثير للجدل .. هورشيما محبوبتي حالة عظيمة تكتسي أروقتها أبداع
تصويري لا مثيل له و كوكبة من الحوارات الشاعرية والفلسفية التي تترامى في كافة
دقائق العمل . يسرد العمل قصة ممثلة فرنسية تسافر لليابان لتقديم دور في احد
الأفلام الرافضة لشذوذ الحرب والمطالبة بالسلام العالمي , لِتلتقي بأحد الرجال
اليابانيين وتبدأ علاقة بينهما .. رينيه حاول قدر الإمكان التوغل في شخصية الفتاة
الفرنسية و الشاب الياباني , وتلك الحالة من الدمار النفسي التي خلفته الحرب في
نفسيهما . فلممثلة كانت تعاني من مأساة مقتل حبيبها الألماني أعتاب الحرب العالمية
الثانية , والشاب الياباني كان يعاني من صدمة سقوط القنبلة النووية على هورشيما .
تلك الخلفية من الرثاء ومحاولة أيجاد السلام . هنا السلام علامة شخصية ذاتيه لتلك
الشخصيتان وأيضا تعبر بشكل عام . فالحرب قبل أن تدمر ما يحيط البشر فهي تحطم
أركانهم الداخلية وتضطهد مشاعرهم وابرز أفكارهم وأحلامهم الخاصة . رينيه في عمله
هذا جعل من العمل السينمائي عبارة عن قصيدة شعرية يلقيها تارة بكوكبة من الصور
وتارة أخرى بأجمل العبارات الحوارية .
3 - 400 ضربة / فرنسوا تروفو
The 400 Blows - 1959
الثأر الطفل أو الطفل الثأر الذي يتقلى شتى
الضربات . ضربات موجعة من أسرته الكادر التدريسي ومجتمعه الرث .. تروفو يحاول أن
يبرز جزء من عالمة الخاص في هذا العمل . الذي كان اقرب أعمال الموجة الجديدة إلى
الواقعية الايطالية . لخلق تلك الحالة حول شاب مراهق ينبذه مجتمعة وينبذه هو
بالتالي .. معالجة تروفو لهذا العمل جاءت بشكل واقعي ويغلب عليها التأثير العاطفي
.. ليقدم الهوة الكائنة في شخصية المراهق أنطوان دونيل , فبعد صفعات متتالية
بدايتها مع والدته مع خلال خيانة زوجها والعنف الشديد الذي يتلقاه من أحد أساتذته
وأخيرا جره إلى احد مراكز التأهيل كونه متهم بسرقة . تروفو جعلنا نرى نظرة المجتمع
لهذا الشاب وكأنها شيطان بشكل طفل . والصدمة التي يتلقاه الطفل من سوداوية عالمة
وكذب الكبار والمشاعر السلبية التي غلبت عليه . والتي جعلت هذا الطفل يفقد براءته
أمام عفونة ما يحيط بيه , والتي جعلته يجري دون هدى ليصل إلى احد الشواطئ موشح وجهه
إلى الكاميرا في تعبير فارغ يلوم الجميع من خلاله على نضوب طفولته سريعاً وبلوغه
بشكل مفاجئ .. ما قدمه تروفو في هذا العمل قد قدم الموجة الفرنسية للعالم , وجعل
منها تيار مهم ويلفت انتباه نقاد وصناع السينما أليه , ومما لا شك فيه أن (أربعمائة
ضربة ) العمل الأقرب من أعمال الموجة للجماهير وذلك لابتعاده عن العديد من
الإشكاليات التقنية المعتادة والقوالب السطحية التي اعتادت عليها هذا التيار
.
4 - الجزار / كلود شابرول
Le boucher - 1970
رغم أن عمل الفرنسي كلود شابرول هذا قدم بعد
عامين من اندثار الموجة الفرنسية الجديدة ألا إني أجده امتداد لهذا الموجة . الجزار
والذي يتطرق لقصة عن مجموعة من الجرائم التي تحدث في احد القرى الفرنسية ,, والذي
يُعد من النوعية القريبة من سينما الفريد هيتشكوك والتي تحتفي بالغموض وقالب
الجريمة للفيلم الأسود . ولكن ما أثارني في هذا العمل هو الجانب ألمشهدي البديع
للمخرج كلود شابرول , والتقطيع للمَشاهد بشكل مثير . والذي راقني بشدة . شابرول
حاول كما معظم رواد الموجة أن يضع علامة بارزة حول تلك الحالة من الضياع والهوس
التي تزرعه الحروب في النفس البشرية , مما تجعلها رهينة لإدمان شذوذ الدماء والقتل
. العمل وكعادة أعمال الموجة تماهى بالقالب المثير والعلاقات الشاعرية والمتعة في
التسلسل ألحدثي . ناهيك عن العلامة الإنسانية البارزة .
5- ليلتي مع مود / اريك رومير
Ma nuit chez Maud - 1969
الحرية المطلقة احد المصطلحات التي تندرج تحت
مسمى أساسيات البشرية , ولكن ان توغلنا بشكل اللازم في هذا المصطلح سنجد انه ليس
هناك ما يسمى حرية مطلقة او حرية جزئية حتى .. نحن نعلق دوماً في دوامات من الشك او
الحدود التي ترصدها العقائد والمعتقدات وبِالكاد الحضارة والطبقات .. نحن نوشك على
جعل العالم مجرد طوابق مبنية من الإخفاق المستمر مع ذاتنا , ونجعل من علاقاتنا شيء
بالغ التعقيد والغموض من منطلق إننا نتبع سياسة الاختيارية .. شيء مثير اننا نطبق
العمليات الحسابية على مجمل امور حياتنا فلابد من جمع وطرح وبالمقابل لابد ان يكون
هناك ناتج من عمليات حياتنا ..؟؟ ومن هنا تأتي ثورة التلاشي في الفطرة , التوغل في
المشاعر وجعلها المحرك الرئيسي لنا .. ليس هناك في الحياة قاعدة محددة وليس في
الانسانية من شر مطبق تحت مسمى الشيطانية , وبتالي ليس هناك من براءة تامة من
منطلق الملائكية .. فلما نجهض كل لحظة ننتشي فيها الحرية المطلقة في خوف يطبق على
روحنا .. يمتاز أسلوب المخرج أريك رومير بالرتابة والتركيز على الشخصيات الرئيسية
وإضفاء أجواء تغلب عليها الواقعية والحوارات الجذابة المرصوفة والجدال الفلسفي
العميق . لعلي أصف رومير بأكثر صناع الموجة ثقافة واقلهم شهرة , على الرغم من تلك
الروائع التي تكتنز في ما قدم .. ليلتي مع مود من أكثر أعمال الموجة تأثيراً في
شخصياً .
تلك المسألة التي حاول اريك رومير ان يوضح سماتها من خلال رائعته
(ليلتي مع مود) في حالة من اصطدام أربع شخصيات او بالأحرى ثلاث شخصيات تدور في فلك
جدلي فلسفي في البحث في مثلث له ثلاثة أضلاع ( العقيدة والأخلاق , الطفرات والحريات
, المشاعر والأحاسيس ) تلك الأضلاع التي في كثير من الاحيان لا تتقاطع معاً وبتالي
ان حاولنا التواصل مع أحداها بشكل التام نخفق في الحصول على الاخرى . شيء خلاق ان
تعبر الشخصية عن فئة وكيان منفصل في المجتمع الإنساني . فسرد رومير علاقة بين مهندس
اعزب وصديقه الطبيب ولقائهم في منزل فتاة مطلقة تسمى (مود) . رومير حاول ان يجذب
انتباه المشاهد الى التعقيدات التي تخطف العلاقات البشرية من خلال علاقة مود وذلك
المهندس. وبذات الان بساطتها من خلال اعجاب المهندس في فتاه التقاها مصادفة في احد
الكنائس . العمل يخلق حالة من الانجذاب والنفور بين البشر دون أي سبيبية , فهي
عملية تتلاعب فيها ازدواجية الخيارات الإنسانية وسخرية القدرية وعبثية الصدف
واخيراً المثلث الذي يكون سمات الهوية البشرية . عمل قدم بشكل مذهل ويمتلك العديد
من الإبعاد بين حواراته .
6 - لعيش حياتي / جان لوك غودار
vivre sa vie - 1962
(أعر نفسك للآخرين ولكن أعطي نفسك لنفسك
) - مونتين ..
البشرية بيت الجسد والروح ,, تلك هي الفلسفة التي أطلقها جان لوك
غودار , بسرده قصة امرأة مطلقة تحاول أن تحقق أحلامها وطموحاتها فتصدم مع الواقع
الرث , فتنجر الى العمل في الدعارة , فحاول جان لوك غودار يجعلك تشعر انه ينتمي
بشكل أو أخر إلى السينما الصامتة , نت خلال تلك الإيماءات والنظرات التي قدمها آنا
كارينا, والتي كانت بمثابة محاكاة حقيقة للمشاهد وكانها تتضرع له عن قسوة الحياة ,
غودار أيضا مخرج يهتم بالقالب المشهد الصوري أكثر من النص والحوارات لذا تجد أن أهم
مفترقات العمل والأفكار فيه كانت من خلال ألصوره واستخدامه لظلال لتعبير عن الأنا
الداخلية للبشر ومشاهد الكلوز اب الضبابية للوجه ومداخل ومخارج الغرف لوصف حاله
البشر من الخارج والداخل ,, أما من منطلق أخر العمل لم يخلو من الإيحاءات عن
اللاهوت الشهواني ألذكوري ومحاولة السيطرة على المرأة واستذكر في رائعة غوادر
"منقطع الأنفاس" حاول فيها إن يعبر عن تأثير المرأة في الرجل وهنا يظهر العكس , أرى
أيضا أن شخصية نانا كانت تعبر عن البشر وان مزاولة عملها كفتاه بائعة هوى لم تكن
ذات إيحاءات أخلاقية بشكل التام بل هيا ذات رؤية اجتماعيه لعيش الحياة فلو جزمنا إن
شخصيه نانا تعبر عن الفرد وان بيع الجسد هو تعبير عن العمل المرهق والمسؤوليات التي
تختنق فيها الطموحات والأفكار البشرية لوجدنا أن اغتصاب نانا يعبر عن ضياع الفرد في
قسوة واقعه , وبين مسؤولياته وموت كافة الأفكار التي كانت تمتلئ فيها ذاته
..
"حياتي لأعيشها" هيا لوحة قدمها المخرج الفرنسي جان لوك غوادر بأسلوب مشهدي
احترافي وبأداء مثالي من النجمة آنا كارينا ليطرح فيها تلك الفلسفية , التي تحملها
الحياة للفرد من قسوة العيش وانهيار الأحلام وفقدان الهوية , وعدم ألقدره على
الاتصال وسيطرة المادة والرغبة عليها , و انه لا مهرب من تلك الغوغائية والسوداوية
ألا بالموت وحرية الروح في النهاية ..
7 - الجلد الناعم / فرنسوا تروفو
La peau douce - 1964
احترت بين خيار هذا العمل وفيلم تروفو
الأخر (جول وجيم ) ولكنني في النهاية اخترت الجلد الناعم وذلك لقدرة فرنسوا تروفو
على تغيير دفة المادة التي يطرحها بعادته , تروفو صنع عمل برجوازي متين . أستطاع
فيه أن يعبر عن سخافة وجنون العلاقات الإنسانية وان يدعمها بروح الجريمة
الهيتشكوكية بشكل ممتاز . يسرد العمل قصة كاتب مشهور متزوج يلتقي في احد الفتيات
الشابات في احد ندواته , فيتعلق به ويدمن وجودها في حياته , حتى انه يحاول أن يتخلى
عن حياته السابقة من اجلها . تروفو هنا قلب موازين العمل وصنع حالة من الصراع
الثلاثي بين ذلك الرجل الأربعيني وبين زوجته وعشيقته ,. وتوغل في العواطف والشهوات
الإنسانية الغير سوية . تلك العلاقات التي عبرت بسخرية عن الذات البشري ومدى جنوحها
وتأثرها بنزواتها وعواطفها .
8 - كيلو من 5 الى 7 / انيس فاردا
Cleo From 5 to 7 1962
يمكن ان نجزم ان هذا العمل اهم ما قدمته
المخرجة انيس فاردا في مسيرتها , نظراً للحفاوة التي تلقاها هذا العمل , كيلو من 5
إلى 7 , حالة مثيرة وممتعة للغاية , حول مغنية فرنسية يشتبه انها مصابة بسرطان ,
فيتم أخذ خزعة من جسدها ,ويطلب منها طبيبها ان تنتظر لمدة زمنية لظهور النتائج .
تأخذنا المخرجة انيس فاردا الى عالم تلك الفتاه التي أصبحت تشعر بالموت يقترب من
روحها , وهنا تبدأ رحلة قصيرة في ذكرياتها والأشخاص المقربين منها حتى أنها تقدم
على علاقة مع احد الجنود التي تتلقيه بالمصادفة وتعمل تلك الأحداث على تغيير
منظورها للحياة . انيس فاردا تقدم عمل فخم ولذيذ للغاية , محموم بحرارة عاطفية
وإنسانية عالية , تدغدغ مشاعر المشاهد بشتى ألوان البساطة والواقع .
9 - مصعد الى المقصلة / لويس مالي
Ascenseur pour l'échafaud -
1958
المخرج الكبير لويس مالي لا يعتبر من
احد مؤسسي الموجة الفرنسية الجديدة , وذلك لأنه قدم العديد من الأعمال قبل ظهور
الموجة ذاتها , ولكن الكثير من النقاد يعتبر عمله (مصعد الى المقصلة ) أحد أعمال
الموجة .. مالي مخرج عظيم واعتبر هذا العمل من الأعمال المفضلة لدي , فقد جمع
كلاسيكيات الفيلم الأسود بالشاعرية الفرنسية بشكل بديع ورائع . يسرد العمل قصة
أمراه متزوجة (جين مورايى ) وعشيقها , اللذان يخططان على قتل الزوج . وفي بعد
القيام بتلك العملية, يعلق المصعد في مبنى شركة الزوج وبداخلة العشيق .. ما يميز
هذا العمل هي تلك الحبكة المختلفة عن إعمال الجريمة المعتادة . فقدم لويس مالي حالة
من الرثاء والمخاوف لدى الزوجة من فقدان العشيق وتلك الأفكار التي آخذت تتداعب
مخيلتها بسبب غياب العشيق المحجوز بين جدران المصعد وبين الصراعات المثيرة للعشيق
للخروج من المصعد وفي الطرف الأخر تخلق حالة من سخرية القدر بسرقة سيارة العشيق من
قبل شاب وفتاه والتي تؤدي الى جريمة قتل اخرى . العمل استطاع ان يخلق سلسلة من
الإحداث المثيرة وفي ذات ألان أن يجعلنا نتعاطف مع تلك الشخصيات الضائعة بين
نزواتها الذاتية وشهواتها المادية وأحاسيسها العاطفية ومخاوفها الداخلية بشكل ممتاز
.
10 - العام الماضي في مارينباد / آلان
رينيه
L'année dernière à Marienbad -
1961
آلان رينيه شاعر سينمائي حقيقي . وأكاد
أجزم انه في عمله هذا, قدم أحد التحف الخالدة في بهاء السينما العالمية . العمل قدم
بطابع السينما السريالية الممزوجة بقالب الرومانسي . والتي تغلب عليها المشهديه
الخلابة والحوارات الشعرية . آلان رينيه حاول ان يرسم لنا شخصياته الثلاث الرئيسية
في احد الفنادق السياحية الضخمة . فجعل من الغرف تعبر عن الأنا الداخلية لتلك
الشخوص . التي تتلاعب فيها نزواتها وعواطفها ومخاوفها الشائكة . يسرد العمل قصة شاب
يدعي انه التقى بسيدة متزوجة في العام الماضي في ذات الفندق , وتنكر تلك المرأة
ادعاءات هذا الرجل .. استطيع القول ان هذا العمل قادر ان يخلق حالة من التوتر لدى
المشاهد , حول تلك الزوايا من اراء الرجل والمرآة المتزوجة واي من تلك الآراء
حقيقية وأي منها وهم . فالعمل يجعل الوهم حقيقة , والحقيقة وهم .. في صورة إبداعية
سريالية عاطفية . ستخرج منها بالعديد من التساؤلات والأفكار في النهاية . لتصف
العمل بتحفة البصرية الفنية ..
. لا تعتبر الاعمال المقدمة من قبلي , أهم
الاعمال في الموجة الفرنسية الجديدة . ولكني اعتبرها المقدمة ألامثل للبداية مع هذة
المدرسة السينمائية الهامة , والتي وصلت اعمالها . في الـعشرة سنوات التي أمتدت
فيها , الى ما يوازي المئة عمل , كان لي التجربة مع مجموعة لا بأس منها .
كتب : عبدالرحمن الخوالدة .