تحرير : عبدالرحمن الخوالدة
السينما اغنية تستعرض الواقع البشري من خلال العديد من الاساليب التي يستحضرها صناعها من خلال مداعبة المشاهدين في كَنف دقة اللغة التصويرية والحوارية والادائية وألاجمل ألخوض في مايسمى العمل السينمائي بقالب فن تترسم جنباته بطابع تأملي يثير في نفس المتابع العديد من علامات ألاستفهام ويضيعه في عالم من المجهول بين طيات تلك الأسرودة النصية ..
المخرج التركي " نوري بيلجي كيلان " والذي يمكن ان تصف سينماه بالرثائيه لواقع المجتمع الانساني وبرود العلاقات والجمود التي تعاث فيها , والبحث عن بصيص من النور بين الظلمة في تلك المجتمعات , نوري بيلجي من الصناع الذين يرتكزون على جمالية الصورة وألابهار في عرض العديد من المشاهد وخصيصاً لما يحيط شخوصة من طبيعية خلابة تسكن في روح المشاهد حالة لايمكن أن توصف أطلاقاً , مخرج العمل الذي قدم 3 روائع في الالفية ( مناخات , القرود الثلاثة , القدر ) والتي تصب تلك الاعمال في رمزية الجانب المظلم في المشاعر الانسانية والازواجية فيها والولوج الى التعمق في صراعات تلك الشخصيات وألامر الذي يجعل سينماه ذات واقع مأسوي ومنحنيات تسخر من الطباع والغرائز البشرية , في مراجعتي هذه أود أن ارمز الى تلك الحالة التي حاول أن يرسيها نوري بيلجي كيلان في فلمه الحاصد على جائزة النقاد في مهرجان كان السينمائي والمرشح لسعفة الذهبية في ذات المهرجان , نوري حاول ان يجذب أنظار المشاهدين في تلك الافتتاحية في مجموعة من السيارات التي تسير في موكب في احد الطرق في التي يمكن ان تصفها بطريق التي تنحدر الى ألاسفل في ظلام دامس ولاترى منها الا تلك بصيص من النور ناتج عن ألاضاءه الامامية لموكب السيارات وأرجح ان هذا المشهد يعتبر من أهم مشاهد العمل الذي افُسره بمسير المجتمع الانساني الى منحدر في ظلام دامس ناتج عن لغة الا تفهم والبرود والنزعة الفطرية وغيرها ولكن الامر المثير هو بصيص الضوء المفتعل من تلك السيارات الذي يؤمن ولو جزء من رؤية الطريق في هذا الظلام الدامس مما يبيح بجزء من ألامل تنحني له سينما بيلجي في النهاية .
أيضا أسم العمل " حدث ذات مره في ألانضول " والمستحضر من واحده من روائع الويسترن للمخرج العملاق سيرجيو ليوني " حدث ذات مره في الغرب " لنذكر انه رائعه ليوني كانت تود ان تخوض تلك الحالة التي يعتاشها الافراد في الغرب وبيلجي كيلان أستغل الاسم ليوضح بشكل ما ان عمله هو وجه أخر لمجتمع يعيش جهه اخرى من العالم بدل كثبان الرمال تجد سيل من الانهار والخضره واراضي واسعة من الجمال والتي تدنسها قبح العامل البشري بعكس فيلم ليوني الذي كان يعبر عن صعوبة العيش في تلك البيئه الصحراوية لمجتمع تربطه علاقات من نوع اخر .. والنتيجة واحدة في النهاية محاولة لتعايش مع الواقع كيفما كان ...!
" حدث ذات مرة في ألانضول " الذي يسرد قصة جريمه حدث في أحد مناطق ألانضول والتي تسبب بها أحد الشبان بعد ان كان في حالة سكُر شديد وأعترافة بذالك الجرم ومن ثم نشهد عملية البحث في عدة أماكن في نفس المنطقة لأيجاد مكان الجثة المدفونة , نوري بيلجي أدخلنا في عوالم الجريمة والمؤامره دون ان يلقى هم لأسبابها بشكل التام او حتى أن يتطرق لمحاولة أستعراض كيفية حدوثها بل كنا نستشف تلك الاحداث من خلال حوارات شخصيات العمل وتقريباً يمر أكثر من نصف ساعة من العمل حتى نستطيع ألتقاط الانفس وربط جزيئات العمل معاً والتعرف عن قرب بشخصيات العمل الرئيسية ( المتهم , رئيس الشرطة , المدعي العام , الطبيب ) تلك الشخصيات الاربعة التي مثلت جزء من السلطة في مرثية نوري بيلجي كيلان , كانت الشخصيات تولد طابع غريب وترسم العديد من علامات الاستفهام في توضيح مدى العلاقة التي تربط الجريمه بهم وبعوالم كل شخصية بشكل متفرد لوحدها , لو لاحظت كنت ستلقى ان تلك الشخصيات الاربعة تعتاش ألمها الشخصي وكنت تشهد بشكل من الاشكال عذاب الضمير في أنفسهم والمعاناة التي تجهض معالم الانسانية فيهم , والامر الظاهر للعيان كنت تستشف الا مبالاه في كثير من الحالات وعدم ألاكتراث حقيقتاً الا بأنهاء تلك القضيه والعوده من تلك المنطقة الى حياتهم اليومية والامر المرجح بنسبه لي ان نوري سلط تلك الفكره من اتجاهان ألاول أتهام بارز لسلطة بتلك الحالة من فقدان العامل النساني في العنصر البشري والثاني الفقدان لأبرز السيمات الأنسانية في العلاقات البشرية الناتج عن الرغبة البشرية والانانية ومحاولة العيش في عالم لم يعد للأنسانية مكان فيه ..
في تلك المرحلة قدم نوري بيلجي احد ألمشاهد التي ذكرتني بما قدمه المخرج الامريكي ترانيس ماليك في رائعته ( في ايام النعيم ) نوري قدم واحدة من المشاهد المبهره بصرياً والتي تحدث في ذاكره المشاهده العديد من علامات الاستفهام واقصد مشهد عندما يقوم احد رجال الشرطة بقطف أحد حبات التفاح من احد الاشجار فترى احد تلك التفاحات تسقط وتنزل في مسار مرسوم وكانه مقدر لها رويداً رويداً في خط مسير للحياة حتى تصل في النهاية لمفترق النهر الذي تسكنه هناك مع مجموعة من التفاحات المتعفنة وارى ان المشهد يمثل بساطة الحياه ونهايته بالموت وسر مايسمى بالقدرية فلو جزمنا ان تلك التفاحه حين قطفها تمثل الانسان عند ولادته وان تدحرجها للأسفل يمثل سنون العمر وأن وصولها في النهاية هو الموت بحد ذاته , فنوري كمن يقول ان نهاية البشر الموت والتعفن في القبر فلما تلك الحالة من الاطماع التي تكتنف في أجسادهم والرغبات الا منتهية فمهما أستمرت تدحرج سنونك في مسبيرتك سيكون نهايته مثل تلك التفاحه التعفن والزوال ..!
بتأكيد انني قد أطلت عليكم في هذه المراجعه ولكني لثقتي ان العمل يستحق فعلا تلك الحالة من الحديث والتدقيق في العديد من المشاهد والاحداث التي قام ببسطها صانع العمل في رائعته لهذا العام , أما المشهد الاكثر جمالاً وأبهارا ويستحق ان يكون المشهد الاكثر خلوداً هو المشهد التي تظهر في احد الفتيات القرويات عندما تقوم بتقديم الشاي لكافة شخصيات العمل الرئيسية المشهد المثير للجدل والذي حاول نوري انه يكسر حاجز الرتم البطىء في عمله وان يثير المشاهدين لتلك الحالة التي رسمت على وجوه كل من ( المتهم , رئيس الشرطة , الطبيب , المدعي العام ) عند تقديمها الشاي لهم واحد تلو الاخر , الاسطورية في المشهد تأتي من منهجين الاول هو ألابهار التصويري الذي خاضة نوري بيلجي كيلان في تقديمه والثاني هو اللوحة التأمليه التي تنحني بين جنباتها العديد من التفسيرات والتي لو أستعرضنا ذالك النور الذي كان يتشح وجه تلك الفتاه بسبب المصباح الذي كان محمول من قبلها في ظلام دامس كان تمثل هيا فيه النور الساطع ولفته للبراءه الانسانية والعواطف الجياشة والرومانسية الفجة وحتى الغريزه والشهوه والرغبة الطاحنه في أنفس اولائك الرجال وايضا مثلت تلك الفتاه ( جميلة ) الروح الجميله في كل منهم وشعلة أمل في وجود بصيص من النور في ألانضول فوجودية تلك الفتاه الشابة رائعة الجمال التي ترتسم الانوار من خلال مسمات وجهها وتتطاير الرياح بين خصلات شعرها بمثابة الروح الاخيره في مقبرة المشاعر الانسانية التي طرحها نوري بيلجي كيلان .
أخيرا أصل الى الجزء الثاني من العمل وهو الجزء الذي قام نوري بيلجي كيلان بتصويره في وضح النهار وحل جميع مفصليات المؤامره في احداث القضية وارى شخصياً سبب تصوير هذا الجزء في النهار هو محاولة بيلجي تسليط الضوء على انفكاك معالم الغموض في نفوس شخصيته واظهاره حالة تعب الضمير وسببية المعاناه التي يدفونها في جسدهم فأستشهد في مشهد اعتراف المدعي العام ان تلك الفتاه التي توفيت هيا زوجته وقد قتلت نفسها بسبب خيانته لها والقاء الضوء على ماضي الطبيب مع زوجته وغيرها من الامور الاخرى ..
أيضاً أسمحو لي ان اطلق العنان لنفسي بتحليل المشهد الاخير وهو عند تشريح الجثة رفض الطبيب ان يشهد ان المغدور تم دفنه وهو على قيد الحياة محاولاً الدفاع بشكل من الاشكال عن المتهم وتلك القطرة من الدماء التي لطخت وجهه معبرة عن محاولة بيلجي ان يقول في النهاية ان ذنب القتل الذي قام به المتهم لا يقل عن تلك الذنوب المدفونه في قبر شخصياته الرئيسية وان كان هناك عدل يجب ان تحاكم السلطة والمجتمع على شرور أنفسها وليس ذالك القاتل فقط ..!
" حدث ذات مره في ألانضول " تحفة فنية ذات معالم ورؤى تأملية وترسم واحدة من مرثيات المشاعر والعواطف والاختيارات ألانسانية ..
4.5/5