7 وصايا على خطى السينما الإيرانية ,, بقلم : محمد المصري ..
في البدءِ
كانت الثّورة، ملايين الناسِ في الشارع يَبعثون الرُّوح في المَدينة الرَّاكِدة
ويَجعلون كُل الأحلامِ مُحتملة، قبل أن يَتكفَّل الوقت بإخفات الجُذوة المُشتعلة
للأشياء، فيكون الواقِع أكثر قُبحاً من خيالاتنا المثالية عن الوَطِن ولا يتبقى بعد
كل هذا سوى مَرارة في الحَلق: مرارة إحباطات الآمال العَظيمة ومرارة الفارق بين ما
تَمَنَّيناه وما صِرنا عَليه.
تِلكَ هي
حِكاية الثورات! فالجمل السابقة يُمكن أن تَنْطَبق سواءً بسواء على الثورتين،
المصرية التي تُوج اعتصامها الأكبر بخلع رأس النظام السابق في 11 فبراير 2011،
والإيرانيّة التي انتهت انتفاضتها المبهرة بهروب الشاة إلى الخارج في 16 يناير
1979. ثم اكتمل الأمر بصورة مشابهه أيضًا: صعد إلى الحكم نِظام إسلامي أكثر جاهزية
من التيارات الأخرى التي شاركته الثورة وَسط مخاوف جَمَّة حول الحريَّات بشكلٍ عام
والتضييق على الفن والثقافة بشكلٍ خاص.
الدَّرس
التاريخي المُستفاد هو أن «الثورة مُستمرة» بطريقتها، كَحتميَّة تغيير في الواقع
القبيح، وككِفاح مُتتال لانتزاع الحقوق. هذا تمَثَّله جيدًا فناني إيران في العقودِ
الأخيرة، حين انتصروا تمامًا على واقعهم.
بدأت
السينما الإيرانيّة رحلة بحث حقيقية عن هويّتها منذ ما يزيد عن الأربعة عقود.
واستمر البحث رغم التضييقات المجتمعيَّة الضخمة التي تَلَت الثورة، حتى وصل إلى
ذَروة نَجاح في العام الماضي حين صَعد المُخرج الإيراني «أصغر فرهادي» ليتسلم جائزة
أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن «انفصال – A Separation»، جامعًا
بينه وبين الدب الذهبي لمهرجان «برلين».
في
المُقابل، لم تَكُن مشكلة السينما المصرية يومًا في الحريَّات. المشكلة كانت في
فَساد الذَّوق المصري العام نتيجة لفسادٍ أكبر يَطال كل شيء آخر. الثورة قامت ضِد
كل هذا. والفن الثوري في وَطنٍ يُولَد من جديد هو ما يؤثر في وِجدان الناس ويَجْعل
مَيلهم للحَسَن في مُقابل القبيح.
نحن لا
نعلم ما الذي سيتغيَّر في المجتمع بعد صعود رئيس إسلامي إلى قمة الحُكم. لدينا
مَخاوف على الحريَّات. ولكن في المُقابل، لا شيء سيوقفنا عن الحُلم بوطنٍ أفضل
نَرسمه بالخيال.. لا شيء سيوقفنا عن تَقديم فَن جيَّد يُبرز هَويتنا الخاصة في حال
حاولنا ذلك.
تِلك هي
«الوصايا السَّبع» التي نَسجها فنانو إيران بأفلامهم خلال العقود السابقة وسط ظرف
سياسي واجتماعي مُشابه لما يحدث في مصر. مبدعو إيران خلقوا هويّتهم وأجبروا العالم
على تقديرها، بينما لازلنا نتعثَّر في خطواتنا.
الوصيّة
الأولى: «لا تحيا على الأرضِ كمستأجرِ بيت أو زائر ريف»
بدأت
السينما في إيران في وقتٍ مقارب لبقيَّة العالم خلال مطلع الثلاثينيات. ولكن البحث
عن هويتها الحقيقية لم يبدأ سوى عام 1969، قبل عشر سنوات من الثورة.السينما الإيرانية في عقودها الأولى كانت
استنساخًا لحكايات هوليوود من ناحية وللسينما الهنديَّة من ناحيةٍ أخرى، خصوصاً مع
رغبة النظام الحاكم في إظهار إيران كدولة أقرب إلى الغرب، لتبدو الصورة التي
تَعكسها الأفلام منافية للواقع بشكلٍ كُلي.ظهور مخرج شاب في الخامسة والعشرين من عمره يُدعى
«داريوش مهرجويي» كان البذرة الأولى التي أنبتت بعد ذلك كُل شيء، تحديدًا حين أخرج
عام 1969 فيلمه «البقرة» ليحدث انقلابًا استثنائيًا في عقلية الإيرانيين الذين رأوا
أنفسهم لأولِ مرة على الشاشة. كانت تلك هي المرة الأولى التي يدركوا فيها «هويَّتهم
السينمائية».الفيلم الذي
أظهر فيه «مهرجويي» تأثرًا بالواقعية الإيطالية – تحديدًا بأفلام المُعلم «فيتوريو
دي سيكا» – كان في المقابل مشبعًا بالرُّوح الإيرانيّة المحليَّة انطلاقًا من قصته
التي تدور حول رجل يملك البقرة الوحيدة في القرية التي يعتمد عليها في كافة تفاصيل
حياته. وأثناء سفر الرجل إلى المدينة تَموت البقرة ويحار أهل البلدة كلهم في كيفية
إخباره بهذا النبأ الذي قد يقضي على حياته. لم يكن «مهرجويي» يعلم في الحقيقة عظمة
ما يفعله. ولكن ما حدث في النهاية هو أن تِلك كانت «السينما الإيرانية»: حِكاية
بَسيطة وهَمّ من الممكن أن يبدو تافهًا، ولكنه بالنسبة لعالم الفيلم الحياة
كلها.
«مهرجويي»
أيضًا صَنع الفيلم بالكثير من السماتِ التي ستصبح فيما بعد أسس «الهوية» السينمائية
لإيران: التصوير في قرية حقيقية للمرة الأولى، الاعتماد على أهالي القرية كممثلين
لأدوارٍ مُساعدة، الإغراق في التفاصيل المحليَّة، الاعتماد على الموسيقى الفارسية
والتراث الثقافي الذي يعود لآلاف السنين، وفي النهاية: الإيمان بكونِ فيلمَك ليسَ
عابرًا فوق تِلك الأرض، ولكنه جزء منها ومُعبر عنها. حيث قضى «مهرجويي» وطاقم فيلمه
ثلاثة أشهر في القرية قبل بدء تصوير الفيلم من أجلِ التآلف مع أهلها.كان فيلمًا فائق الجودة، كُرّم بجائزةٍ
خاصة في مهرجان «برلين» كتحيَّة لسينما مُختلفة تَحبو في خطواتها الأولى. ولذلك فإن
حتى منع الفيلم أثناء حُكم الشاه بسبب تأثيره على «الصورة الخارجية لإيران» لم يمنع
خلقه لجيلٍ جديد من السينمائيين يتعامل مع تفاصيل الحياة اليوميَّة باعتبارها
حكايات مُدهشة يجب أن تُروى. وكان على رأس هذا الجيل الأب الروحي والرمز الأول
لسينما إيران بعد ذلك: المُعَلّم «عباس كياروستامي»
الوصيّة
الثانية: «الشجرة المُثمرة لا تُزرع خارج الديار»
لماذا
نَحنُ هُنا؟ لماذا لا نذهب إلى أرضٍ أخرى تَطُل على شطآنٍ بعيدة ؟ الإجابة يُجملها
«كياروستامي» حين رَفض السَّفر إلى خارج إيران بعد الثورة الإسلاميَّة وقال بيقين
مُدهش: «حينما تأخذ شجرة مُثمرة من مكانِها وتزرعها في مكانٍ آخر، فهي ببساطة لَن
تُثمر»
الصورة
كانت سوداويَّة بشدّة في هذا الوقت: وصول «الخميني» إلى السلطة وتقييد الحكومة
للحريَّات العامة تزامن مع رؤية شعبويَّة للسينما وصناعها باعتبارهم من مُخلَّفات
نظام الشاه، مما أدَّى لحرق ما يقارب مائتي دار عرض سينمائي كجزءٍ من «الثورة»،
وجَعل نضال الفنانين على جبهتين: مع الرّقابة من ناحية، ومع النّاس أنفسهم وتَطوير
وَعيهم ورؤيتهم للسينما من ناحيةٍ أخرى.
القرار
الأهم لسينمائيي إيران الكبار كان أن «تِلكَ هي أرضنا». صحيح أن هُناك الكثير من
الفنانين الإيرانيين تركوا البلاد في هذا الوقت، لأسباب منطقيَّة لا يجوز معها
اللومِ أو العَتَب، ولكن الاحترام والخلود والمَجد الحقيقي كان لهؤلاء الذين بَقوا
وأسَّسوا لسينما إيرانية على مدار عقود وسط ظروف شديدة الصعوبة.
عَبَّاس
كان يتحدَّث عَن الجميع حين تحدث عن نفسه قائلا: «حتى لو أثمرت، فلن تَكون ثَمرتها
كمثلِ ما كانت عليه زَرعة أصيلة في أرضها، تِلك هي الطّبيعة، وسأصبح مِثل تِلك
الشجرة لو غادرت».ويُمكن
القول أن هذا الخيار كان بداية الطريق
الوصيّة
الثالثة: «وانظر إلى الجبلِ الراسي على جبلٍ»
«كياروستامي» – الذي كان قد قدَّم حتى ذلك الحين فيلمًا
واحدًا طويلا يحمل اسم «مُسافر» وعدّة أفلام قصيرة أولها هو أهمها ويحمل اسم «الخبر
والممر» – كان أكثر من مُخرج هام يُكمل رحلة البحث والتأسيس لهوية إيران
السينمائية. كياروستامي كان مُلهمًا وقائدًا لجيلٍ «الموجة الإيرانية
الجديدة».
أدرك
السينمائيون الإيرانيون آنذاك أنه لا يمكن مواجهه المُجتمع والنّظام إلا بأن يكونوا
كُتلة واحدة، جيل يتحقَّق سويًا. ومن حسن الحظ أنهم حملوا أفكارًا متشابهة حول
السينما.
ولذلك فإن
تلك المرحلة شهدت إخراج «مجيد مجيدي» و«محسن مخملباف» لأولِ أفلامهم، ثم لاحقًا
انضم إليهم «جعفر بناهي». أما «عباس كياروستامي»، فقد كان هُناكَ دائمًا.. يكتب أحد
أفلام هذا، ويصنع فيلماً كاملا عن ذاك، ويشارك في الإنتاج أو يساعد في الإخراج مع
آخر. كان «المُعلم والقائد» بكل ما تَحمله الكلمة من معانٍ، إلى جانب تقديمه
لأفلامه الخاصة التي كان يصل بها كل بضع سنوات إلى ذروة جديدة في السرد
هؤلاء
الأربعة – تحديدًا – كانوا رموز السينما الإيرانية؛ الحدود بين أعمالهم لا يمكن
تمييزها، ونضالهم مع الناس وضد النظام واحد
وربما لا
يُمكن تجاوز تِلك النُّقطة دون الإشارة إلى السينما المصرية. ففي الثمانينيات
أيضًا، كانت السينما المصرية تعيش واحدة من أهم ذرواتها وموجاتها، بنفسِ السمات
التي تأسست بها نظيرتها الإيرانية. فقط بدلا من الثورة كانت هناك تغيُّرات مجتمعية
ضخمة بعد الإنفتاح. والنتاج: جيل واحد خرج سويًا.. قوامه الأساسي محمد خان وخيري
بشارة وعاطف الطيب ثم داوود عبدالسيد. جيل أراد أن يقدم سينما مُختلفة تحمل هوية
خاصة، وتمثلت ذروة تواصله وتَدعيمه لبعضه، كجبلٍ فوق جَبَل، في تأسيس خان والطيب
وبشير الديك والمونتيرة نادية شكري شركة «الصحبة للإنتاج السينمائي» التي أنتجت
فيلمًا واحدًا هو «الحريف» الذي يعد من أعظم الأفلام المصريَّة وأكثرها حِملا
للهويَّة، وذلك قبل أن تقهرها المشاكل الماليَّة كما قهرت جيل الثمانينيات كله مع
مطلع التسعينات بعد أن صارت الضغوطات أكبر من القدرة على إكمالِ الطريق
وبالعودة
إلى السينما الإيرانيّة، فإن هذا لم يحدث هُناك. فقد استمر الجيل في تأسيس هويّته،
وانضم إليه آخرون، وبدأ العالم يَستمع إلى الصوت القادم من الشرق معبرًا عن سينما
مُختلفة
الوصيَّة
الرابعة: «تحسب أنَّك جرمٌ صغير وفيكَ انطوى العالم الأكبر»
لماذا
استمع العالم؟ لأن الصوت كان مُختلفًا عن السائِد. شيء غير الذي اعتادوا رؤيته.
إنها ذاتها.. تِلكَ الحكايات البسيطة عن الهموم اليومية التافهة التي تَحمل في
طيَّاتها الحَياة كُلها.
الإيرانيون آمنوا حتى بالفُتاتِ في بلادِهم.. تعاملوا مع
كل التفاصيل المُعتادَة بدَهشةٍ ومحبَّةٍ وعِشق، فبدت ذات مَعنى وروح مُختلفة،
تُعبّر عنهم، عنهم وحدهم.
لماذا
دارت أغلب الأفلام الإيرانية في القرى البسيطة؟ لأن «هؤلاء هم أهلنا» كما أجابَ
«محسن مخملباف» يومًا. لهذا يُمكن أن تَجوب الطرق عدَّة أشهر كي تَستمع لهم، تتعامل
مع كل موقف عابر باعتباره حَدثًا يجَب أن ترويه، تُراقب النَّبت لأسابيع وهو يُولَد
كي تَزداد صِلتك بتلك المَدينة. العالم بالنسبة لَك هو هؤلاء، حتى وإن كَرهوك،
لأنهم «مَلح الأرض وإن كانوا لا يعلمون»
وفي نُقطة
أقرب، وأكثر تفصيلا، هناك «الأطفال»، الكثير من الأطفال في الأفلام الإيرانية، لأن
«العالم عندهم أصغر وأكثر صِدقًا» بحسب ما يرى «مجيد مجيدي»، ولأن «تعبيراتهم
وهمومهم المُستقلة أكثر إثارة للاهتمام أحيانًا من شيء يقدمه مارلون براندو» كما
يعتقد «كياروستامي»
ومن
المُدهش والمُوحِي حقًا أن أغلب الأفلام التي عَرَّفت العالم على السينما الإيرانية
وجيلها هذا كانت من بطولة أطفال. «كياروستامي» كان المُلهم الأول كالعادة حين
تَناول في «أين يقع منزل صديقي؟» هاجسنا الطفولي الأكبر في أن يسأل المُدرّس عن
كراسة الواجب التي نسيناها في المَنزل. «أحمد»، بطل الفيلم، يحاول البحث عن بيت
زميله في المدرسة «محمد رضا» ليأخذ منه الكراسة التي نسيها معه لأن المدرس سيعاقبه
غدًا لو لم يقم بواجبه. وفي تِلك الرحلة التي تدور في القرية الكثير من إيران،
الكثير من الأرضِ والنَّاس، يُمكنك أن تتنفس هواءً فارسياً وأنتَ تُشاهد هذا الفيلم
الطفل في
«سائق الدراجة» لـ«مخملباف» رُكن أصيل في حكاية عن الأب الذي يُحاول إنقاذ الأم
المريضة، وهو الحكاية كلها في فيلمِ «جعفر بناهي» الأول «البالون الأبيض» الذي كتبه
«كياروستامي» عن طِفلة في السادسة تُقنع والدتها بإعطائها مالا لشراءِ «سمكة زينة
ذهبية» احتفالا بالعيد، وحين يسقط منها المال في «بالوعة» نجلس معها قرابة الساعة –
زمن الأحداث هو زمن الفيلم الحقيقي – في مُحاولة لاستعادته. الطّفل هو الحِكايات
كلها في أفلام «مَجيد مجيدي».. هو الذي يكبر قبل الأوان مُتحملا مسؤولية العائلة في
«الأب»، وهو الفقير الذي يفقد حذاء أخته الجديد ويحاول البحث عن حَل يجعلها تذهب
إلى المدرسة في «أطفال الجنة»، وهو أعمى في الثامنة من عمره يحاول إدراك الطَّبيعة
والحياة بحواسه الأخرى ليرى «لون الجنَّة».. الأطفال والقرى كانوا العالم الأكبر في
إيران
الكُلفة
كانت لا شيء، والإيمان بالأرضِ وناسها كان كل شيء، والحَصاد كان تواجد السينما
الإيرانية على الخريطة العالمية باحترامٍ بالغ، قبل أن تصل عام 1997 إلى ما هو أبعد
الوصيَّة
الخامسة: «اذهب بصدقِ الخيال ومُعجزة العُشب»
السينما
وُلِدَت بالخيال: خيال الأفكار وخيال الفيلم الروائي الذي جعل الناس يقبلون على
مشاهدة الحكايات. ورغم ذلك فإن سؤالاً مؤرقًا، لكل سينمائي ربما، يدور حول النقطة
التي ينتهي عندها الواقع كي يبدأ الخيال. لماذا نصنع سينما «وثائقية»؟ وهل الحقيقة
في تلك السينما أكثر حقيقية منها في قصة مُتخيَّلة؟ وكيف يحدث تآلف بين السينما
الروائية والتسجيلية؟ هل هذا مُمكن أصلا؟
«كياروستامي» فقط امتلك الإجابة، ثم تبعته السينما
الإيرانية في إحدى النَّقلات الكبرى التي جعلتها تمتلك صوتًا مختلفًا عن العالم.
الإجابة كانت «تفكيك السرد السينمائي» ورواية الحكايات بطريقة مُختلفة تجعل التماهى
مُدهشًا وفي ذروة مراحله يمتزج الواقع والخيال.
البداية
إذن كانت، وكما كانت دائمًا، مع «كياروستامي» حين قدم عام 1990 فيلمًا استثنائيًا
يحمل اسم «كلوز أب».. ذلك هو العمل الإيراني الذي يجب على الجميعِ مُشاهدته قبل
الموت!
الأمر
بسيط : كان «كياروستامي» يجهّز لأحد أفلامه حين قرأ في إحدى المجلات الإيرانية
خبرًا عن شخص سيقدم للمحاكمة لأنه انتحل شخصية المخرج «محسن مخملباف». تقصّى
كياروستامي الأمر، ثم قرر أن يُؤجل الفيلم الذي يعمل به ليصنع فيلمًا عن تلك
الحادثة؛ قرر أن يصور المُحاكمة ويجري لقاء مصورًا مع المُنتحل.. فامتلك مادة
وثائقية لم يُدرك في البداية ماذا يمكن أن يفعل بها، ولكنه في النهاية خَلَق ذروة
من ذروات الفن: قصة شغف عن السينما وعن إيران
«حسين
سابزيان»، بطل الفيلم، ينتحل شخصية «مخملباف» لأن حلمه الأكبر هو أن يصبح مخرجًا
وصانعًا للأفلام. «كياروستامي» رأى أن كل مخرجي جيله هم «سابزيان».. الفارق فقط هو
الفرصة التي مُنِحَت لهم. وحين يُنهي المخرج الفيلم بلقاء «سابزيان» و«مخملباف»، في
واحد من أكثر المشاهد السينمائية «طيبة» في التاريخ، تتجلَّى عظمة العمل الحقيقية:
«كياروستامي» حقق حُلم وشغف «سابزيان» السينمائي بصناعة فيلم عنه وجعل الواقع يَخلق
السينما والسينما تُغيّر في الواقع وتجعل كُل الأحلام مُمكنة.
المُعَلّم
الإيراني كان دقيقًا حين قال «لا يمكن أن نقترب من الحقيقة إلا عبر الخيال». وقد
صار هذا أسلوبًا سينمائيًا مميزًا له فيما بعد. إذ تكرر بعد عامين في فيلمه «الحياة
تستمر»، حين ذهب بالكاميرا ليبحث عن «أحمد» بطل فيلم «أين يقع منزل صديقي؟» بعد
حدوث زلزال مُدمّر في بلدة «كوكر»، ليصنع من رحلته الوثائقية فيلمًا روائيًا عن
غريزة البقاء والاستمرار، أو كما قال هو: «الزلزال وقع في الخامسة صباحًا. أي شخص
من هؤلاء الأحياء الذين قابلتهم كان يمكن أن يكون نائمًا ويموت أيضًا. كان هناك
امتنان عند كل منهم لبقائه حيًا»
«مخملباف»
يلتقط خَيط التفكيك السردي من «كياروستامي» فيقدّم ثلاثية تدمج بين الواقع والخيال
والشغف بالفن وهي: «حدث ذات مرة في السينما» و«الممثل» وأخيرًا «سلام سينما»، قبل
أن يُكمِل المَسيرة المُدهشة عام 1996 بفيلمه الأعظم «لحظة براءة».. فيلم داخل فيلم
عن «المخرج مخملباف» الذي يُعيد رواية جانبًا من سيرته وهو شاب أثناء الثورة
الإيرانية وقيامه بطعن ضابط شرطة في أحد الاحتجاجات.. الفيلم يكشف كيف يُمكن تغيير
الذكريات بإعادة سردها سينمائيًا؟ والنتيجة كانت ذروة أخرى من ذروات السينما
الإيرانية التي أصبحت في هذا الوقت في واجهة العالم
بعدها
بعامٍ واحد، 1997، كان التكريم والانحناء الأكبر حين رُشّح «مجيد مجيدي» لأوسكار
أفضل فيلم أجنبي عن «أطفال الجنّة». والأهم: «كياروستامي» يفوز بالسعفة الذهبية
لمهرجان «كان» السينمائي عن رائعته «طَعم الَكَرْز»، التي يقدّم فيها سردًا
وحَكِيًا مُختلف عن الحياة والمَوت
في هذا
الوقت أيضًا، وبعد أقل من أسبوعين من انتصار «السعفة الذهبية»، فاز «محمد خاتمي»،
المُتفتّح والمُشجّع على إنتاج الأفلام، برئاسة الجمهورية الإيرانية باكتساح. ودارت
التحليلات السياسية وقتها حول تأثير فوز «كياروستامي» في «كان»، وفخر الإيرانيين
برمزهم السينمائي الأول، في ترجيح كافة «خاتمي» كانتصار للفن والحريَّات
بدا حينه
أن لكل شيء مَعنى: الرهان على الأرضِ والنَّاس والسينما، والبقاء في إيران رغم كل
الظروف العَصيبة. فالشجرة أنتجت أول الثّمار المُجتمعيَّة لنضالٍ طويل بالأفلام ضد
الكبت وتضييق الحريَّات. وكانت تلك لحظة مثاليَّة لانتصار الخيال على الواقع..
انتصار «الثورة» الحقيقية التي ظَلَّت مُستمرّة لسنواتٍ طويلة
الوصيّة
السادسة: «الأرض لَكُم وأنتم الطّريق»
لَم
تَستمر الصورة بنفس المثاليَّة، وكان ذلك أمرًا محزنًا. فترة رئاسة «خاتمي» كانت
إحباطًا جديدًا للآمال التي عُلّقِت عليه في البداية، رغم فتحه الباب لبعض الأفلام
التي تنتقد السياسة الإيرانيَّة، مثل «الدائرة» لـ«جعفر بناهي» الذي فاز بالأسد
الذهبي لمهرجان «البندقيّة»، أو «قندهار» إحدى ذروات «محسن محملباف»، أو «التفاحة»
لابنته «سميرة مخملباف»، وغيرها من الأعمال التي لم يكن من الممكن خروجها للنور إلا
بمساحة من الحرية أتاحها
ومع
انتهاء فترة خاتمي الثانية عام 2005 كان على السينمائيين مواجهة حقيقة أن التيار
الإسلامي المُتشدّد المتمثّل في «محمود أحمدي نجاد» وصل إلى السلطة من جديد، وأن
نضالا، أصعب ربما من كُل ما مَر، سيواجههم
لكن
النَّتيجة على الأرض كانت مُفزعة «مجيد مجيدي» لم يستطع أن ينتج إلا فيلمًا واحدًا؛
«مخملباف» هَرب إلى الخارج وأخرج عملا كارثيًا يحمل اسم «الجنس والفلسفة» بدا فيه
بعيدًا عن كُل ما مَيَّزه حتى «كياروستامي» نفسه لَم يَحتمل لأن «الهواء لم يعد
كافياً للتنفّس» بحسبِ تعبيره، وأخرج فيلمين في فرنسا واليابان تم عرضهم في «كان»
ولكن بعد أن فقد الكثير من السّحرِ القديم، تمامًا كالأشجار التي تُقتلع من
أرضها
الأسوأ من
كُل شيء كان الحُكم بسجنِ «جعفر بناهي» لمدة ستة أعوام ومنعه من الإخراج أو التأليف
أو العمل بالسينما لعشرين عامٍ. السبب غير المُعلن كان مُناصرته للمعارض الإيراني
«مير حسين موسوي» في الانتخابات الرئاسية عام 2009 أما السبب المعلن، والكارثي،
فقد كان «تقديمه لأعمال ضد الحكومة الإيرانية تسيء لصورة البلاد في
الخارج»
الصورة
بدت قاتمة.. لم تعد هناك نقطة نور واحدة.. لم يعد هناك معنى أن تنظر إلى السماء..
إذ لا سماء هُناك
لكن وسطَ
كل هذا القبح، ويا للعجب، كان هناك جيلا إيرانيًا جديداً يُولَد حاملا الرّاية من
أسلافه.. جيل مَثَّلته عدّة أسماء على رأسها «رافي بيتس» بأفلامٍ ذات روح مُختلفة
كـ«هذا الشتاء» أو «الصيَّاد»، و«بهمان غوبادي» الذي وصل لإحدى الذروات مع «السلاحف
أيضًا تَطير» و«وقت الخيول المخمورة» وفيلمه الجرئ جدًا الذي يتناول الموسيقى غير
الرسميَّة في إيران «لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية»، وهو الفيلم الذي كان
مُلهمًا مباشراً للفيلمِ المصري «ميكروفون»، ثم.. جاء النابغة «أصغر فرهادي» الذي
أخرج عملا سينمائيًا عظيمًا – «عن إيلي» – فاز به بالدب الفضي لمهرجان «برلين» عام
2009، قبل أن يَصل بعدها بعامين إلى أبعد مما حققه أو وَصل إليه حتى أسلافه العِظام
حين جمع بين الدب الذهبي وأوسكار أفضل فيلم أجنبي جاعلا العالم كله يَقف احترامًا
لتحفته «انفصال نادر وسيمين»
والأهم أن
فرهادي كان يَذكر «جعفر بناهي» في كُل مَوْضِع مُتاح ليُذكّر العالم أن مُخرجًا في
هذا العالم قد يتعرَّض للحبس بسبب فَنه. أما «جعفر» نفسه، فهو لم يَتوقف أو يصمت
كما أرادت حكومة «نجاد». حيث أنه أخرج أثناء إقامته الإجبارية عملا وثائقيًا عن
تجربته يحمل اسم «هذا ليس فيلمًا» ليؤكد فقط أن ما من أحد يمكن أن يُجبرنا على
السكوت
في
النهاية، ستذهب حكومة «نجاد»، أو أي طَاغية آخر يَلهو بحريَّة الناس، وستبقى الثورة
وشرائط الأفلام وأفكاركم حيَّة بداخلها.. ستبقى الأرض لَكم إن أحببتموها، وستذكركم
وقت أن يُنسى الجَميع
الوصيَّة
الأخيرة: «ستصل على الدوام إلى هذه المَدينة/لا تأمل في بقاعٍ أخرى/ما من ب سُفنٍ
لأجلك وما من سبيل»