احصائيات المدونة

cenima world

الجمعة، 5 أغسطس 2011

الواقع والمُتخّيل في سينما بيرتـولوتـشـي..

الواقع والمُتخّيل في سينما بيرتـولوتـشـي
  علي كامل 21 مارس 2006

"لقد عرفت الحياة من خلال الأفلام, مثلما عرفها بورغيس(1) عبر الكتب.. "بيرتولوتشي

::. ترجمة و تقديم علي كامـل مخرج سينمائي عراقي – لنـد ن
مقدمـة :
بيرتولوتشي

خلف الأفلام الإيطالية المجّددة والمبتكرة في السبعينات كان يقف صف من المخرجين الكبار أمثال فرانشيسكو روزي، ماركو بيلوتشيو, وورثمولر، ماركو فيريري، و إتور سكولا، أولئك الذين
أنتجوا أفلامهم الأولى في فجر ميلاد ماسمي حينها بـ ” الموجة الجديدة “.

من بينهم جميعاً برز إسم بيرناردو بيرتولوتشي الشاعر الريفي الشاب، والمتمرد المناهض لجميع تلك المؤسسات الإجتماعية والدينية والسياسية التقليدية التي كانت قائمة في إيطاليا آنذاك.
هذا الشاب القادم من الشعر إلى السينما دخل روما العاصمة ليقول كلمته: ( أريد أن أغيّر العالم! )..
يقول بيرتولوتشي، وهو يعود بذاكرته إلى تلك السنوات: “.. كانت الستينات فترة متألقة حقاً بالنسبة للسينما. أحسست يومها بإنتمائي الروحي إلى سينما ” الخندقة ” تلك التي إنتشرت آنذاك مثل
النار في الهشيم، مقتحمة إيطاليا، فرنسا، بريطانيا، كندا وأمريكا و.. يحتمل، البرازيل..
كنت مسحوراً بشكل خاص بجودار وراسنيس، تروفو، ريفيني، ورومير وآخرين.. أتذكـّر أن الفكرة الرئيسية أو وجهة النظر التي كانت سائدة آنذاك وسط الموجة الجديدة العارمة تلك، والتي كنا
نلتقي عندها جميعاً، هي رفض الحكاية أو القصة أو الحبكة في أفلامنا .
إن كل ماكنا نسعى إليه هو أن نتحدث عن السينما لاغير، السينما نفسها في أفلامنا!. بمعنى، إننا كنا كمن يعمل فيلمان يسيران معاً في فيلم واحد، أحدهم يحكي قصة، والآخر أشبه ببحث أو محاولة
تجريبة، تختبىء بين السطور. ” (2)
ولد بيرناردو بيرتولوتشي في المقاطعة الريفية ” بارما ” في إيطاليا عام 1940، وهو إبن الشاعر والناقد السينمائي وأستاذ تأريخ الفن أتيليو بيرتولوتشي.
إبتدأ بيرناردو كتابة الشعر منذ طفولته، وكان نشر قصائده الأولى في الدوريات الأدبية قبل بلوغه الثانية عشر من عمره.
في سن العشرين، وحين كان طالباً في جامعة روما، فاز بجائزة الشعر الوطني، بمجموعته الشعرية الموسومة ” بحثاً عن اللغز “.
كان بيرتولوتشي قد أبدى في مراهقته حماسة ورغبة غير عادية نحو السينما، تلك العدوى التي إنتقلت إليه من والده، الذي كان يصطحبه دائماً معه إلى صالات السينما لمشاهدة الأفلام. وقد عمل
حينها فيلمين قصيرين ـ مقاس 16 ملم، مدة الواحد 15 دقيقة ـ هما ” تيليفريك ” و ” ذبح الخنازير”.
غادر بيرتولوتشي مقعد دراسته في الجامعة عام 1961 ليلتحق ببازوليني كمساعد مخرج في فيلمه
” الشحاذ ” والذي سيظل بيرتولوتشي يتذكر تلك الفرصة التـاريخية في كل مناسبة بفخر وإعتزاز، والتي لم تتاح لأي من مجايليه الشباب آنذاك.
حقيقة الأمر إن الفضل في ذلك كله يعود لوالده أتيليو بيرتولوتشي، الذي سعى حينها جاهداً على نشر أول رواية لبازوليني. وهكذا جاءت تلك الفرصة التي منحها بازوليني لبيرتولوتشي كنوع من رّد
ودّي وصادق لذلك الجميل.
أخرج بيرتولوتشي فيلمه الأول ” الوحش المرّوع أو الموت “(3) بعد عام تماماً، والذي أقتبسه عن قصة لبازوليني بنفس العنوان، تتحدث عن عملية إستجواب تجري مع مجموعة أشخاص متهمين
في قتلهم لإحدى المومسات، إلا أن ذلك الشريط لم يحقق للمخرج الشاب طموحأ يذكر، بل على العكس من ذلك، كان سبب له إحباطاً كبيراً، وكارثة مالية للمنتج، وأحدث ما يشبه الصدمة في الوسط
السينمائي النقدي.


::. فيلم ماقبل الثورة
بعدها أمضى عامين للتحضير لفيلمه الثاني ” ماقبل الثورة ” الفيلم الذي سيثير إنتباه السينمائيين والنقاد على حد سواء نظراً لنضجه الفكري والجمالي، معلناً بذلك ميلاد مخيلة سينمائية مجددة
ومبتكرة.
الفيلم هو أشبه بسيرة ذاتية أومذكرات شخصية، وإستكشافاً رومنتيكياً للحساسية الثورية لجيل شباب متمرد وغاضب، صّور فيه بيرتولوتشي النزاع صعب التوفيق، بين الروح الثوري السياسي
وبين الروح البورجوازي، ذلك الذي كان سائداً ليس وسط الشباب الإيطالي حسب , بل هو نزعة سادت عموم شببيبة العالم آنذاك. وقد تجسدت تلك الحالة في الفلم بوقوف بطله منشطراً بين عالمين
متعارضين هما عالم السياسة وعالم الجنس.
يومها، كان بيرتولوتشي واحداً من الناشطين السياسيين البارزين في الوسط الثقافي الإيطالي، وقد إعترف في أكثر من مناسبة بأنه ماركسي، إلا أنه مع ذلك، كان قد وظف أشرطته السينمائية تلك
كوسيلة للتعبير عن رؤاه السياسية الخاصة.
شخصيات الفيلم كانت تحمل نكهة ستاندالية، إلا أن أحاسيسها بيرتولوتشية خالصة، أما بيئتها الجغرافية فلم تكن فرنسية بل إيطالية محضة. كان الفيلم حقاً تعبيراً تاماً عن الأوهام الرومنتيكية.
وعلى الرغم من ثغراته الأسلوبية والإفراط في محاكاته لمعالجات غودار، إلا إنه أثار إهتمام الكثير من النقاد في أوربا وأمريكا، الذين هتفوا له ورحبوا به حينها، لينال في الآخر جائزة ” ماكس
أوفولس ” في فرنسا.
في عام 1968 يستعير بيرتولوتشي ثيمة فيلمه القادم ” الشريك ” من رواية ” المزدوج ” لدوستويفسكي،
إلا أنه ينقل بيئة أحداثها من بيترسبورغ أربعينات القرن التاسع عشر إلى إيطاليا أواسط الستينات.
كان الفيلم بحثاً سيكولوجياً عن حالة الفصام التي تعيشها شخصية البطل، إلا إن المناخ العام الذي يحيط بتلك الشخصية، كان سياسياً. لذا أصبح الفيلم من هذه الوجهة هو بمثابة شهادة إدانة سياسية
صارخة ضد أمريكا في حربها على فيتنام، وذلك من خلال الهجوم الساحق ضد بورجوازية روما المعاصرة، المرآة التي كانت تعكس وجه برجوازية العالم الرأسمالي بأسره.
1970 هو عام حاسم في مسيرة ومهنة بيرتولوتشي، فيه أنجز فيلمين للتلفزيون الإيطالي الأول هو
” مكيدة العنكبوت ” المأخوذ عن قصة جورج لوي بورغيس ” الخائن والبطل ” وهو فيلم روائي قصير تزامن إنتاجه مع الفترة التي كان يخضع فيها بيرتولوتشي حينها إلى علاج نفسي مكثف
وطويل، وقد إنعكست آثار تلك العلاجات السيكولوجية، كما المرآة، على رؤى المخرج في معالجاته للفكرة وبناء الشخصيات في هذا الفيلم وفي أفلامه القادمة الأخرى.
إنه فيلم يتحدث عن إبن قدم إلى المدينة التي عاش فيها أبيه المغدور بحثاً عن قاتله الفاشي، والذي يتكشف فيما بعد أنه قتل من قبل رجال المقاومة الذين كان يعمل معهم، بسبب خيانته لهم وتعاونه
مع الفاشيين. الخطان السيكولوجي والسياسي في هذا الفيلم يسيران أيضاً بشكل متواز من خلال العقدة الأوديبية من جانب، وتعريته الأيدلوجية الفاشية من جانب آخر. إلا إن هذا المزج الهرموني
بين الفكر وعلم النفس يجد له تعبيراً أوضح وأدق في فيلمه الثاني ” الممتـثـل ” المقتبس عن رواية البرتو مورافيا، وهو أحد أفضل أفلام السبعينات، بسبب طرحه لسؤال أساسي يتعلق بمغزى
وجدوى الوضع السوي والمتوازن وسط عالم فاشي مشوه ومقيت .
إنه ميلودراما رومنتيكية ومعالجة لموضوع العلاقات الجنسية في نفس الوقت، لعب فيه جان لوي ترينتيان دور رجل يختفي داخل ثياب قاتل فاشي، فيما دومينيكو ساندا وستيفانا تمارسان السحاق.
كان الفيلم، في الواقع، تعرية لجوهر الأيديولوجيا الفاشية، و دراسة تأملية للعلاقة مابين مفهوم الشعب ومفهوم الأمة، عبر موشور المزاج الشعبي والذاكرة الجماعية.
::. من فيلم الممتثل
إن ما كان يمّيز أفلام بيرتولوتشي في هذه المرحلة هو نضج إسلوبه الإنطباعي في السينما، ذلك الأسلوب الذي إستطاع أن يجمع في مضامينه بين الأدب والسياسة والتلميحات الفلسفية، والإستخدام
الفطن لنظرية فرويد في التحليل النفسي. أما فيما يتعلق بالجانب التقني والجمالي، فقد إستخدم بيرتولوتشي الكاميرا كعنصر مشارك وفاعل في الحدث، وليس موضوعي محايد، كما هو الحال عند
بازوليني مثلاً. كذلك إستخدامه المونتاج الإيقاعي والظلال والضياء، والتعليق الشعري المركبّ التغريبي والمختزل في المشهد، متماهياً بعض الشيء وإستخدامات فيلليني.
تميزت أفلامه أيضاً باللقطات البانورامية للطبيعة تلك التي كانت تعكس التكوينات والألوان الإيطالية لرسامي عصر النهضة الأيطالي. أما الميزة الأساسية التي طبعت أسلوب بيزتولوتشي في هذه
الفترة وستتواصل معه إلى الآخر، فهي إستخدامه الخلاق لفن الإرتجال على صعيد السيناريو والتصوير والعمل مع الممثل، فكل شيء سيتغير في موقع التصوير!!.
( التانغو الأخير في باريس )

::. من فيلم التانغو الأخير
في فيلمه “التانغو الأخيرفي باريس” يقتحم بيرتولوتشي هذه المرة، المناطق المحظورة والبدائية لمملكة الإنسان، حيث العواطف عارية، نقية وصادقة، كنوع من الحلول المفصلية للعثور على
الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء القطيعة القائمة بين البشر .
إنه فيلم ملكَ جرأة ثيمات وتقنيات جودار، وقوة عُري الجسد الإنساني عند بيرغمان.
التانغو الأخير، هو فيلم يحكي عن التعارض وصعوبة المصالحة بين الماضي والحاضر، وإستحالة إقامة صلات بين البشر. أما الجنس فهو يأتي هنا كمحاولة أخيرة لقيام تلك الصلة، والتي تتوّج في
الآخر بالموت، كنوع من خيبة الأمل في تحقيق ذلك المسعى، وذلك من خلال قيام جيني ” ماري شنايدر ” المستغرقة في أوهام الحاضر، بقتل عشيقها، سجين الماضي بول ” مارلون براندو “.
يقول بيرتولوتشي: ” إن لقاء الرجل بالمرأة، هو بمثابة لقاء بين ثقافتين، وبما أن كل ثقافة تتعارض مع الثقافة الأخرى بالضرورة، يغرم العاشقان بعضهما ببعض . يغرمان ببعضهما فقط لأنهما
مختلفين.
لكن، وبسبب هذا الإختلاف ذاته، ينفصلان عن بعضهم البعض في الآخر..”(3)
في هذه المرحلة إضطر بيرتولوتشي، وعلى خطى مواطنه فيسكونتي إلى إستخدام نجوم هوليوود من الممثلين، في لعب الأدوار الرئيسية لأفلامه، بسبب الأزمة الإقتصادية التي عصفت بصناعة
السينما الإيطالية آنذاك، والتي دفعت بالكثير من المخرجين الإيطاليين آنذاك إلى عمل أفلام مشتركة مع شركات أجنبية ( فرنسية , سويدية وألمانية ) ولم يكن بيرتولوتشي إستثناءاً.
ففي ” التانغو الأخير في باريس ” مثلاً كان هناك ممثل إيطالي واحد فقط لعب دوراً رئيسياً في الفيلم وهو ( ماسيمو جيروتي ) .
الفيلم أثار جدلاً واسعاً في جميع الأوساط، ولعنته المحاكم الإيطالية على وجه الخصوص وإعتبرته فيلماً فاحشاً غير محتشم، يخاطب الغرائز الدنيا، بسبب مشاهده العارية الصريحة. وكان قد صودر
من قبل الرقابة وأتلفت جميع نسخه. لكن، بعد سنوات وبعد إن خف غضب المؤسسات القضائية والدينية وخمد سعير النار البيوريتانية، نتيجة للتغييرات التي طرأت على الكثير من تقاليد وطبائع
الناس في إيطاليا
والعالم، وكذلك بعد أن ألغيت الرقابة، ظهر الفيلم إلى الضوء ثانية، حيث كان بيرتولوتشي يومها قد خبأ النسخة السرية للفيلم!.
” الجنس عام 1968 ” يقول بيرتولوتشي ” كان يعتبر عنصراً قوياً ومؤثراً، وكان يسير على جادة واحدة وبشكل متزامن مع السياسة والموسيقى والسينما. كان كل منهم يرتبط ويقترن بالآخر،
وهذه سمة عظيمة سمت تلك الفترة، والتي يفتقدها أبناء هذا الجيل اليوم، رغم أنهم ليس المذنبون في ذلك.“(3 )
إن عقدة ” الأب ” وصداها الأوديبي ـ الفرويدي ستتسلل إلى جل أفلام بيرتولوتشي، فنعثر عليها في مكيدة العنكبوت عبرعلاقة الإبن بعشيقة أبيه المقتول، وفي التانغو الأخير في باريس عن طريق
بول الذي يكتشف أنه إبن زوجته المنتحرة، وأنه والد الفتاة التي يعشقها.
حين شاهد والد بيرتولوتشي فيلم التانغو الأخير في باريس قال لولده معلقاً: ” أنت ذكي يا برناردو. لقد قتلتني مرات عديدة، دون أن تذهب إلى السجن..” (4)
حقق الفيلم لحظة رؤيته النور رقما قياسياً في شباك التذاكر بسبب جرأته موضوعه، وكذلك بسبب قوة سحر وجاذبية مارلون براندو، الممثل المثير للجدل، وإلى جانبه ساحرة الشاشة ماري شنايدر.
لقد برهن بيرتولوتشي مرة أخرى أنه مخرج يملك موهبة متميزة ومن نوع خاص، وأن أفلامه حية نابضة يرتادها الجميع، بسبب قدرتها على الجمع بين الحس التجاري والجمالي في آن.

::. من فيلم 1900
فيلمه التالي ” 1900 أو القرن العشرين ” أنتج عام 1976، وهو الملحمة التي تغطي فترة زمنية أمدها سبعون عاماً من النزاعات الأجتماعية والسياسية في مقاطعة إيميليا الإيطالية، مسقط رأس
المخرج.
إنه قصة إيطاليا منذ موت فيردي، مروراً بظهور الفاشية، وصعودها وإنتهائاً بأفولها.
كان الفيلم قد أثار جدلاً واسعاً ليس فقط بسبب موضوعه المناهض للفاشية وكذلك صراحته الجنسية وعنفه النابض، لكن أيضاً بسبب طوله غير العادي، فقد كان طول النسخة الأصلية التي عرضت
في مهرجان
” كان ” تقرب من الخمس ساعات ونصف الساعة، ناهيك عن تأثير أدوار البطولة التي لعبها بيرت لانكستر ودونالد ساثيرلاند وروبرت دي نيرو .
في الأعوام مابين 1979 ـ1981 أنتج بيرتولوتشي فيلمين هما فيلم ” القمر ” وفيلم ” مأساة رجل مضحك”، إلا أن ذروة مجده تجسدت أخيراً في فيلم “الإمبراطور الأخير” 1987، الملحمة
الضخمة التي أعادت عبر الألوان الباهرة والديكور المتقن والأزياء ذي الحساسية العالية، الفصل الأخيرمن مجد وأفول تأريخ الأسرة المالكة في الصين عبر شخصية Yu Yi آخر إمبراطور صيني.
تابع الفيلم مسار معاناة الأمير الوارث للعرش الملكي، منذ طفولته وحتى شيخوخته، تلك التي توجّت بالسقوط والإذلال التام تحت ظل الحكم الشيوعي بقيادة ماو، الذي أحال الإمبراطور إلى بستاني
يخدم في قصر الحكومة الشيوعية.
وكان قد ساهم في هذا الإنتاج الضخم المشترك كل من إيطاليا وبريطانيا و الصين، و حصل الفيلم على 9 جوائز أكاديمية متضمنة أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل سيناريو..
في عام 1990 أنجز بيرتولوتشي فيلمه “السماء الواقية” المقتبسة ثيمته عن رواية الكاتب الأمريكي بول باولي، تبعه بعد ثلاثة أعوام بفيلمه التأريخي الملحمي الشهير”بوذا الصغير” المقتبس عن
قصة هيرمان هيسة “Siddhartha” والتي تحكي قصة الأمير سدهارثا والإله بوذا.
إنه فيلم تأريخي يتناول الديانة البوذية، وقد تضمّن حبكتان، الأولى تتناول قصة الكاهن البوذي الذي يبحث عمن يتقمص شخصية أستاذه المتوفى، والثانية تحكي قصة سدهارثا أميرغواتيمالا، الذي
هو بوذا.
وكانت قد بلغت كلفة الفيلم حوالي 35 مليون دولار.
في العام 1998 أخرج بيرتولوتشي فيلماً تلفزيونياً بعنوان “المحاصر” مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الروائي جيمس لاسدن، كتب السيناريو معاً هو وكلير بيبلو، وهو يحكي قصة فتاة أفريقية
تهرب من بلدها نتيجة للقمع السياسي الذي تمارسه السلطة الدكتاتورية هناك، والذي يُعتقل زوجها نتيجة لمناهضته السلطة، فيما تتعرض هي للملاحقة.
في روما، حيث يستقر بها الحال، تسعى هناك لمتابعة دراسة الطب، فتلتقي بشاب إنكليزي منعزل في بيته، وتنشأ علاقة حب بين هذين المغتربين، علاقة حب بين قارتين، بين ثقافتين، حب هو
بمثابة نوع من المزاوجة بين الموسيقى الأوربية والغناء الأفريقي.
رجل وإمرأة وبيانو ونافذة تطل على السنوات العاصفة لنهاية القرن. علاقة الحب تلك لايمكن أن ُتستانف، كعادة بيرتولوتشي في كل أفلامه، لكنه يضع لها بديلاً، كنوع من التوهج لأمل يخبو، وهو
التضحية، التي هي بمثابة خطاب جديد لبيرتولوتشي، فيقوم الموسيقي الشاب وتحقيقاً لحلم الفتاة، ببيع كل مايملك، وآخره البيانو، لإنقاذ زوج الفتاة من سجنه في قارته السوداء.
في هذا الفيلم، يعود بيرتولوتشي إلى أسلوب غودار في إستخدامه السرعة والحدة والخشونة في تقطيع اللقطات والمونتاح ذي الوثبات، والكاميرا المحمولة على الكتف.
” الحالمون ” 2004 هو آخر فيلم لبيرتولوتشي، يستعيد فيه المخرج مرة أخرى أجواء الستينات وإضرابات الطلبة، إلا إن الراديكالية هنا تجد تعبيراً لها في الجنس وليس في السياسة، بإعتبار
الجنس عنصراً محظوراً آنذاكن وهو في نفس الوقت إسقاطاً معاصراً على أوضاع الشبيبة اليوم .



 

::. من فيلم الحالمون
الفيلم هو أحد أضعف الحلقات في سلسلة أفلام بيرتولوتشي حسب إستفتاء للمتفرجين الشباب على وجه الخصوص، لأنه يوغل في ممارسات الجنس لدرجة تتيح له السماح بسفاح القربى، على
الرغم من أن الجنس هنا مشرق خفيف ومبهج، وهوعلى التضاد من الجنس الذي كان معتماً ثقيلاً ومأساوياً في التانغو الأخير في باريس .
يظل بيرتو لوتشي دون ريب، أحد أهم المخرجين السينمائيين المعاصرين مثاراً للخلاف والجدل، بسبب جرأة ثيماته التحريضية، تلك التي دفعت الناس إلى إعادة النظر في أنفسهم ومجتمعاتهم، وهو
الذي إستطاع حقاً أن يدفع بتخوم التقاليد والأعراف السائدة إلى الصفوف الخلفية.
إنه مثل بيرغمان وفلليني وكينجي وأورسن ويلز، هؤلاء الذين حاولوا من خلال أشرطة أفلامهم أن يعيدوا تأويل العالم، وأن يزيلوا القذارة عن وجه التأريخ .
ع . ك
يصف ” لورينت تيراد ” في كتابه (5) إنطباعاته الأولى عند رؤيته بيرتولوتشي لعمل هذا اللقاء معه، بقوله:
( .. إذا أردتُ وصف بيرناردو بيرتولوتشي، فإن المفردة الأولى التي تخطر في ذهني هي ” الهدوء “.
الجميع عرفه في السبعينات ثائراً، مسعوراً ومتمرداًً، في تلك الأوقات المتفجرة الصاخبة التي أزهرت حينها باقة من أفضل أفلامه السياسية التحريضية الألقة.
لكنني حين جلست وأياه، أصغي اليه بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على ذلك، لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في الحافز الذي دعاه في الفترة المتأخرة أن يعمل فيلماً عن بوذا. صحيح، أنه مازال
يوجد القليل من ألق ماكر في عينيه، وأزعم أنه كان لزام عليه أن يغضب أحياناً، لكن لم يحدث أي شيء من هذا هنا.. لاشيء سوى الهدوء.. الهدوء الذي كان يشع من وجهه وعينيه في ذلك اليوم،
حيث تقابلنا في مهرجان
” لوكارنو السينمائي” في سويسرا.
كان يشعر بيرتولوتشي وسط الناس في ذلك المهرجان بنوع من الفخر بشخصه وأفلامه.
الناس يتذكرونه دائماً لفيلمه ” التانغو الأخير في باريس” و “الإمبراطور الأخير” ( والذي حصل عبرهما على تسعة جوائز أوسكار). إلا إنني أعتبر فيلم ” الممتـثـل ” هو الأعظم من بين كل
أفلامه، بسبب إحتوائه على كل العناصر التي تجعل من أعماله خصبة، مؤثرة، وقوية جداً: الرؤية السياسية، المنظور التأريخي، مأساة الكائن البشري، التمثيل الفانتازي، ومحتمل أن الأفضل من
بين كل تلك العناصر هو قوة معالجاته الضوئية، تلك التي كان يقف ورائها خيال ” فيتوريو ستورارو” (6) الخلاق، الذي يعتبر أحد أفضل مخرجي فن الفوتوغرافيا في العالم حساً في الضوء واللون
والتكوين والإيقاع، بل وأشهر المصورين السينمائيين معرفة بإمكانيات الكاميرا السينمائية في إعادة خلق العالم التخييلي للفنان، وهو الذي عمل تقريباً في كل أفلام بيرتولوتشي..
حين طلبت منه في ذلك اللقاء أن يعطينا درساً من خبرته الإخراجية في السينما، إبتسم قليلاً، ربما،
بسبب نبذه لفكرة الدروس السينمائية، تلك التي ُتذكّر برمادية النظرية وقاعات الدرس المضجرة، أو ربما بسبب رفضه لأساتذته السينمائيين في الستينات وعدم رغبته في العودة ثانية إلى تلك الأيام.
إلا إن المدهش، هو أنه أبدى موافقته بكرم وتواضع جميلين على عمل ذلك اللقاء، بل أثبت في النهاية، وعلى العكس من مزاعمه، أن في جعبته الكثير ليقوله ويقوله بهذا الشأن…).
( هدف الفيلم هو أن يحّـلق بنا إلى مكان آخر مختلف تماماً )
لم أذهب للدراسة في معهد أو كلية سينمائية لدراسة السينما على الإطلاق. كنت محظوظاً جداً، أنني عملت في شبابي مساعداً في أفلام بيير باوزوليني، وهناك تعلمت حقاً أسرار فن الإخراج .
كنت و لسنوات عديدة، فخوراً بعدم حاجتي للتوجيه النظري، ومازلت حتى الآن، أؤمن أن أفضل معهد أو كلية ممكنةهو موقع تصوير الفيلم، المكان الذي يتم فيه تصوير أحداث الفيلم. هذه هي النقطة
الأولى .
لابد لي هنا أن أنوه هنا أن الفرصة التي أتيحت لي للعمل مع باوزوليني لايمكن أن تتاح لأي واحد.
النقطة الأخرى، أن دراسة كيفية عمل الأفلام والوصول إلى أسرار هذه المهنة الشاقة والشيقة، من وجهة نظري، هو ليس فقط أن تعمل أفلاماً، بل عليك أيضاً أن تشاهد الكثير والكثير من الأفلام.
هاتان النقطتان تتساويان في أهميتهما. ومحتمل أن يكون هذا هو السبب الوحيد الذي يدعوني إلى دفع من يريد أن يمتهن هذه المهنة في أن يلتحق بمعهد أو كلية للسينما اليوم:
إنها فرصة إستكشاف لأسرار جميع أنواع الأفلام، تلك التي لايمكن أن تشاهدها في الصالات العامة.
لكن، لو سألني أحد ما أن أدرّس الإخراج، فسأ قع في حيرة حقاً. وإذا قدّر لي أن أدخل اللعبة، فلن أعرف كيفية البدء.
حسناً، ربما أنني سأبدأ، ببساطة، برغبة وقناعة مني، أن أعرض لهم أفلاماً. أما الفيلم الذي سأختاره من بين جميع تلك الأفلام فسيكون بالتأكيد فيلم ” قواعد اللعبة ” لجين رينوار. سأحاول أن
أظهر للطلاب في هذا الفلم، كبف أن رينوار إستطاع أن يشيد جسراً بين الإنطباعية، فن والده الرسام أوغست رينوار، وبين فنه هو، السينما.
سأحاول أن أبرهن لهم أيضاً كيف أن هذا الفيلم كان قد حقق هدفه، ذلك الهدف الذي يسعى أي فيلم إلى تحقيقه، وهو أن يحلق بنا إلى مكان آخر مختلف تماماً.
( دع الباب مفتوحاً )
لقد تسنت لي فرصة لقاء جين رينوار في لوس أنجلوس في السبعينات، وكان عمره قد ناهز الثمانين عاماً تقريباً آنذاك، وكان يستعمل كرسياً متحركاً.
تحدثنا لمدة ساعة واحدة تقريباً، وقد أدهشني أن أجد أن أفكاره المتعلقه بالسينما، كانت ذات الأفكار التي ظننا أننا نحن الذين إكتشفناها آنذاك في موجتنا الجديدة، بإستثناء واحد،هو أنه كان يمتلك
تلك الأفكار قبلنا بثلاثين عام!
أتذكر أنه قال لي شيئاً ترك إنطباعاً شديداً لديّ، بل كان أبلغ درس تعلمته حول كيفية عمل الفيلم، والذي لم أتعلم مثله في كل مكان. قال: ” ينبغي عليك على الدوام أن تترك باب موقع
التصويرمفتوحاً، لأنك لاتعرف مالذي يمكن أن يدخل عليك “.
إن ماكان يعنيه بذلك، بالطبع، هو أن عليك أن تعرف كيف توفر حيزاً لما هو غير متوقع، لما هو مفاجىء ولما هو عفوي وتلقائي، طالما نحن غالباً، نفكر في خلق سحر السينما.
أنا في أفلامي، أترك الباب مفتوحاً على الدوام لأسمح للحياة أن تدخل إلى موقع تصوير الأحداث.
وربما سأوقع نفسي في تناقض إذا قلت لك، أن هذا هو السبب الذي يدعوني وبشكل متزايد إلى العمل
بسيناريوهات مبنية ومّركبة سلفاً. سأوضح لك هذا الإلتباس حالاً.
إذا كان لدي قاعدة صلبة، سيناريو مبني بناءاً جيداً، لأتحرك منه، ساشعر براحة وإسترخاء تولدان عندي الدوافع التي تشجعني على الإرتجال، عند ذاك سأتخلص من هيمنة السيناريو الحديدي،
وأبدأ العوم أمام الكاميرا..
الشيء المؤثر والشيق بالنسبة لي، هو ظهور ذلك الشيء غير المتوقع والتلقائي وتسلله إلينا عبر تلك الباب، أما ذلك المدّون على الورق، والمخطط والمعد له سلفاً، فيصبح مجرد نظرية ساكنة. ذلك
أن الفيلم يولد أمام الكاميرا وعلى شريط السيليلويد، ولا علاقة له بما هو مكتوب على الورق .
لو أردت أن أصور مشهداً خارجياً، على سبيل المثال، في طقس مشمس جداً وفجأة وبشكل غير متوقع، تندفع الغيوم لتحجب الشمس أثناء تصوير اللقطة، حيث الإضاءة المطلوبة ستتغير بشكل غير
متوقع. هذه اللحظة بالنسبة لي تشبه إلى حد ما، لحظة الدخول إلى الجنة!. أما إذا إستمر تصوير لقطة الغيوم، على وجه الخصوص، وهي تحجب الشمس لفترة أطول لحين إبتعادها وبزوغ الشمس
من جديد، فهذا شيء يشبه السحر.. أشياء كهذه تكون مذهلة وساحرة لأنها تمثل الدرجة القصوى للإرتجال.
لكن ” إترك الباب مفتوحاً ” لا يتعلق فقط بالأشياء التي تقع فجأة في خارج موقع التصوير كالتغييرات الطبيعية وما شاكل. كلا.
لقد كنت أكتب الشعر قبل بدئي العمل في السينما، لذا كنت أنظر إلى الكاميرا في البدء كما لو أنها ريشة
كتابة، لكنها من نوع آخر، ليس تلك التي كنت أخط بها قصائدي على الورق.
لقد عملت مرة فيلماً لوحدي، وأفرغت فيه كل مافي رأسي من رؤى وأفكار، لدرجة أصبحتُ بالنسبة له كما الخالق، بالمعنى الضيق جداً للكلمة. لكن، بعد حين، وبمرور الوقت، أدركت أن المخرج
يمكنه أن يعّبر عن فانتازياته بشكل أفضل بكثير، لو أنه إستطاع أن يثير وينشط القدرة الإبداعية لدى جميع العاملين من حوله.
الفيلم هو شيء أشبه بالبوتقة، وجب أن تنصهر فيه مواهب جميع أعضاء فريق الفيلم معاً.
الفيلم الخام نفسه، هو مادة ذو حساسية عالية جداً أكثر مما يتصوره الناس، فهو يسجل على صفحة السيللويد، ليس فقط ما يجري أمام الكاميرا، بل كل شيء يدور من حولها.
( أنام .. لأحلم بلقطات أفلامي )
بما أنني لم أدرس الإخراج السينمائي بطريقة نظرية تقليدية، فإن قواعد لغة الفيلم لا تعني لي أي شيء على الإطلاق.
الأكثر من ذلك، أنه حتى لو وحدتْ قواعد لغة كهذه، فطريقة تفكيري تستوجب مني رفضها وتحّديها وعدم الخضوع لها.
حين صور غودار فيلم “على آخر نفس” ، فإن قواعد اللغة الفيلمية التي إستخدمها هي ” قوة وقدرة القطع المونتاجي المفاجىء”(7). هكذا تُخلق وتُستنبط قواعد اللغة السينمائية.
الشيء المثير للدهشة هو أنك لو شاهدت أحد آخر أفلام جون فورد، وهو فيلم “النساء السبعة” سترى ان المخرج ـ وهو أحد أكبر وأكثر المخرجين الهوليووديين إلتزاماً بالتقالييد الكلاسية في
السينما ـ كان قد إستخدم هذا النوع من المونتاج في فيلمه هذا، مباشرة بعد مشاهدته فيلم “على آخر نفس”!..
كنتُ ولفترة طويلة من الزمن، ومازلت، أتعامل مع كل لقطة أصورها، كما لو أنها اللقطة الأخيرة، أو، كما لو أن أحداً ما سيأتي وينتزع مني كاميرتي ويأخذها مباشرة بعد إنتهائي من تصوير تلك
اللقطة.
لذا كنت أحس على الدوام، أنني أسرق كل لقطة أقوم بتصويرها، وبهذا النوع من التفكير، من المستحيل التفكير بشيء يتعلق بـ ” قواعد اللغة ” أو حتى بـ ” المنطق ” .
أنا لا أفكر في إعداد أو تهيئة أي شيء سلفاً على الإطلاق، لأن ذلك من شأنه أن يفسد الكثير من الأشياء، ويغلق الباب بوجه القادم الملغز.
في الحقيقة أنا أحاول أن أحلم في نومي بتلك اللقطات التي سأقوم بتصويرها في يوم الغد في موقع
التصوير.
أستطيع فعل ذلك بقليل من الحظ. أما إذا تعذر ذلك، فإنني حينها وحال وصولي موقع التصوير في الصباح، أطلب من الجميع أن أُترك لوحدي لفترة وجيزة، أطوف فيها حول مكان التصوير ومعي
ناظور العدسات،
أستكشف المكان بعناية وحذر ودقة، وأتخيل الشخصيات وهي تتحرك وتنطق بحواراتها، كما لو إن ذلك المشهد الذي سنقوم بتصويره، كان موجوداً هناك أصلاً، بشكل غير مرئي وغير محسوس.
من هذه النقطة يبدأ دوري في البحث عنه، للعثور عليه، و بعث الحياة فيه من جديد.
بعدها أجلب الكاميرا إلى المكان، وأنادي على الممثلين، ثم أبدأ محاولاتي في رؤية ماكنت تخيلته وهو يحدث أمامي في الواقع. أما البقية فهي عملية طويلة من التناغم المرهف مابين الكاميرا
والممثلين والإضاءة.
لذا، فثمة نوعاً من التدفق والإستمرارية في مجرى العملية التي نقوم بها، والتي من خلالها أحاول أن أتيقن تماماً أن كل لقطة نقوم بتصويرها، تصبح بمثابة دافع أو حافز لأنبثاق اللقطة التي تليها،
وهكذا.
( كيف تشّيد جسراً للعبور إلى الآخر؟ )
إن تبادل الأفكار وإقامة العلاقات مع طاقم العمل هو عنصر جوهري وحاسم لخلق مسار سلس ناعم ورشيق لمجرى العمل في موقع التصوير. وهذا ينبغي أن يؤَسَس بفترة تسبق تصوير الفيلم. عكس
ذلك، سيكون الوقت متأخراً جداً وسيترك آثاراً سلبية على روحية العمل الذي نقوم به أثناء التصوير.
دعني أورد لك مثالاً على مااقول. حين قررت إخراج فيلم “التانغو الأخير في باريس” أخذت مصّوري فيتوريو ستورارو لزيارة معرض الرسام فرانسيس بيكون في ( Grand Palace ) في
باريس. لقد أريته لوحات بيكون، وأوضحت له، أنني أردت إستخدام هذه الأشياء مثل إيحاءات ملهمة لي في الفيلم. ولو أنك دققت النظر جيداً في الفيلم، لأستطعت أن تجد هناك درجات لون برتقالية
فيه، تلك التي كانت بتأثير وإلهام مباشر من بيكون.
بعدها أخذت معي مارلون براندو لرؤية المعرض نفسه، وأريته اللوحة (8) التي ستظهر فيما بعد خلال التايتل في بداية الفيلم.
إنه بورتريه يبدو لك مجازياً تماماً حين تراه لأول مرة. لكنك لو تأملته لبعض الوقت، فإنه سيفقد نزعته الطبيعية تماماً، ليصبح تعبيراً عما يحدث في لا وعي الرسام.
قلت لمارلون ” هل تأملت تلك اللوحة جيداً؟ حسناً، أريد منك أن تعيد خلق ذات الألم الرهيب الذي ينبعث منها “.
وقد كانت تلك الملاحظة الوحيدة، أو بالأحرى، التوجيه الرئيسي والوحيد الذي أعطيته لمارلون براندو في مجمل العمل في الفيلم.
أنا غالباً ماأستخدم لوحات الرسم كواسطة لتبادل الأفكار وخلق الصلات مع الممثلين أو طاقم العمل، فتصبح تلك اللوحات بمثابة جسر لعبور الرؤى والأفكار مابين الضفتين، أي، ما بينك وبين الآخر،
وهي غالباً ماتكون أكثر تأثيراً بكثير من إستخدام مئات الكلمات.
( الكاميرا هاجسي الدائم )
الكاميرا لديها حضور حقيقي في أفلامي، بل حضوراً كاملاً أحياناً، في الواقع . إنني أعشق قوامها وحدقتيها، فهي تستحوذ عليّ تماماً لدرجة أفقد معها السيطرة والتحكم بها. إنها هي من يقود
توجيهاتي، بمعنى، أنها تتحرك وتتجول طوال الوقت، وفي أفلامي الأخيرة صارت تتنقل وتتحرك أكثر من ذي قبل.
الكاميرا تدخل المشهد وتخرج منه، مثل شخصية غير مرئية في قصة. أنا لا أستطيع الصمود أمام إغوائها وهي تدعوني إلى تحريكها.
أظن أن ذلك ناتج عن الرغبة في خلق صلة حسية مع الشخصيات، بأمل أنها ستتحول بعد ذلك إلى علاقة حسية بين الشخصيات نفسها.
حين خضعت في فترة من حياتي إلى علاج نفسي وعصبي، كنت أفكر مثلاً، أن حركة الكاميرا إلى الأمام Tracking in هي شبيهة تماماً بحركة الطفل وهو يعدو بإتجاه أمه، فيما الحركة المعاكسة،
أي، الحركة نحو الخلفTracking out تعني هروب الطفل أو فراره وتلاشيه. على أي حال، تبق الكاميرا هي مركز إهتمامي الأول والرئيسي أثناء تصوير اللقطة.
أنا بحاجة لأقامة صلات مسبقة مع الممثلين والتقنيين لكي أكرس الكثير من وقتي في موقع التصوير لحركة الكاميرا وإختيار العدسات. أنا مثلاً لا أستعمل الزوم ZOOM كثيراً. لا أعرف السبب،
لكنني أجد أن ثمة شيئاً زائفاً في حركته.
أتذكر أنني في يوم ما من أيام تصوير” مكيدة العنكبوت ” أحببت أن أستخدم الزوم، رغبة في التغيير، لا أكثر، فقد أنفقت ساعة من الوقت تقريباً وأنا ألعب معه، إلى درجة الغثيان. أخيراً، أخرجت
الزوم من الكاميرا، وقلت: لا أريد أن أرى هذا النوع من العدسات أبداً.
وظللت لسنوات عديدة وأنا أفكر به، كما لو أنه أداةً شيطانيةً، لكنني بدأت الآن، وفي الأيام الأخيرة، على وجه الخصوص، أحس أنني أقيم علاقة دافئة وأكثر طمأنينة معه. الواقع، أنني أستخدم الزوم
بطريقة سهلة وعملية جداً.
( أبحث عن اللغزالمختبأ خلف قناع الممثل )
أعتقد إن سر العمل الجيد مع الممثل يكمن أولاً في كيفية إختياره. ولكي تحقق نجاحاً في ذلك، عليك أن تنسى الشخصية المكتوبة في السكربت لفترة وجيزة، وترى فيما إذا كان الشخص الذي أمامك،
يثير إهتمامك وإنتباهك، أم لا؟
هذه مسألة مهمة جداً، لأنه من الغريب والنادر جداً أنك تحس، خلال تصوير اللقطة، أن هذا الممثل هو الذي يقودك إلى سبر وإستكشاف الشخصية في القصة.
أنت أحياناً تختار مـمثلاً، لأنه يبدو لك أنه يتطابق تماماً والشخصية المكتوبة في السكربت، لكنك ولسوء الحظ، ستدرك في النهاية، أن ماتفعله ليس ممتعاً أو شيقاً أو مثيراً للأنتباه، وليس هناك أي
لغز وراء ذلك.
أعتقد إن القوة الدافعة وراء أي فيلم هي، أولاً وبشكل رئيسي، رغبة المخرج في إكتشاف لغز كل شخصية. كذلك الحال فيما يتعلق في العمل مع الممثل واعطاء التوجيهات إليه، فأنا أحاول على الدوام
أن أطوّع قواعد السينما الواقعية إلى عالم المخيلة.
سأورد لك مثالاً على ذلك، في أحد مشاهد فيلم ” التانغو الأخير في باريس ” يضطجع بول ( مارلون براندو) على سريره، ويسرد لجين ( ماري شنايدر ) أشياء كثيرة تتعلق بحياته الماضيه.
هل تعرف أن ماقاله مارلون براندو كان كله إختلاقاً من مخيلته، ولم يكن موجوداً في السيناريو أصلاً!.
ماقلته له هو الجملة التالية: ” مارلون .. ستقوم ماري شنايدر بطرح أسئلة عليك، فأجبها كما تشاء ومثلما تحب. “.
وهكذا إبتدأ يصف لها كل تلك الأشياء المزعجة والمشوشة، فيما كنت أقف أنا مصغياً له كالمتفرج،
ناسياً تماماً أنني المخرج..
لا أستطيع الزعم، بالطبع، سواء كان مارلون يكذب أو يقول الحقيقة. وهذه تماماً، هي وظيفة الإرتجال.
الأرتجال هو محاولة لملامسة الحقيقة، وإظهار شيء ما صادق جداً، من الممكن أن يكون مختبئاً خلف قناع الممثل. وهذا الشيء، في الواقع، كان هو الشيء الأول والجوهري، من جملة الأشياء التي
أوضحتها لبراندو.
لقد طلبت منه أن يخلع عن وجهه قناع ممثل الإستديو، لأنني كنت أريد أن أرى ماكان مختبئاً وراء ذلك القناع.
إلتقينا مرة أخرى قبل عامين وتحدثنا قليلاً، وبعد فترة وجيزة، قال لي بإبتسامة ماكرة ومعذبة:” وهل كنت تعتقد حقاً، أنني كنت أمثل شخصيتي الحقيقية في ذلك الفيلم، ها..؟”
لا أعرف حقاً، إن كان مارلون يمثل شخصيته الحقيقية أم لا، لكن ذلك هو الشيء الرائع والمدهش جداً في الأمر.
لقد أردت أن أعرف الكثير عن مارلون براندو نفسه، وقد عرفت بالفعل الشيء الكثير عنه. كن على يقين، طالما أنت لاتكذب أمام الكاميرا، فالكاميرا بالمقابل لن تكذب، وسترى الحقيقة.
حين رأى مارلون براندو الفيلم، أصيب بما يشبه الصدمة، ولم يكن يرغب في رؤيتي ثانية ولمدة طويلة، لأنه شعر أنني سرقت منه شيئاً ما، لم يكن هو نفسه يعرفه!.. ذلك هو بالضبط ماعنيته باللغز
المختبأ خلف قناع الممثل.
الواقع إن كل فيلم هو بمثابة قصة حب لي مع الممثلين. عكس ذلك، سيفقد الفيلم في الآخر شيئاً ما أجهله!..
( ماهي السينما؟ )
من الواضح والبديهي أن الفيلم هو تحويل الفكرة إلى مجازات بصرية، لكن الشيء الأكثر سراً بالنسبة لي، هو الطريقة التي يمكن بواسطتها إستكشاف شيء ما، أكثر خصوصية، وأكثر تجريداً في
ذات الوقت.
إن أفلامي دائماً تختلف جداً، في الآخر، عما كنت قد تخيلته في البدء. لذا فإن عملية الخلق تتعرض للكثير من التغييرات والتبدلات، وهي في تطور وتقدم متواتر نحو الأمام.
إنني دائماً ما أشّبه الفيلم بقرصان سفينة، فهو يجهل تماماً أين سترسي سفينته، لذا عليه أن يدعها طليقة تتبع رياح الإبداع، فما بالك بشخص مثلي يعشق التحليق في الإتجاه المعاكس.
الواقع , أنني كنت أعتقد في وقت من الأوقات، أن التناقض يكمن في أساس كل شيء، وهو الذي يمثل القوة المحركة خلف كل فيلم. بهذه الطريقة واصلت العمل على فيلم ” 1900 أو القرن
العشرين “، فهو بالرغم من أنه يتحدث عن ميلاد الإشتراكية، إلا أنه ُ قد تموّل بدولارات أمريكية!. أرأيت كيف..
في هذا الفيلم مزجت ممثلي هوليود بفلاحي وادي بـو الذين لم يروا كاميرا في حياتهم من قبل، وكان ذلك قد غمرني حقاً بسعادة لا توصف.
حين إبتدأت أخرج الأفلام في الستينات، كان ثمة شيء، كنا نطلق عليه نحن المخرجين آنذاك، سؤال بازان: ” ماهي السينما ؟ “(9)
وهو سؤال يشبه إلى حد ما نوعاً من الإستجواب المتواصل والذي لاينتهي، لدرجة إنتهى به الأمر إلى أن أصبح تقريباً موضوعاً لكل فيلم. لكننا توقفنا فيما بعد عن طرح ذلك السؤال لأن الأشياء
كانت قد تغيرت.
أردت القول أنني اليوم أحس أن السينما تتعرض إلى نوع من الإضطراب، الذي من شأنه أن يفقدها الكثير من أصالتها وتميزها، والذي يستدعي منا جميعاً، إعادة طرح سؤال كازان القديم من جديد،
ماهي السينما؟

تابع كل جديد برسالة الكترونيه لـ إيميلك فورا

تابعني على تويتر