احصائيات المدونة

cenima world

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

تعقيدات الزمن السينمائي والزمن الروائي .. وتحفة ماركر La Jetée



لنتجاوز سويا جميع المعضلات الفلسفية والتركيبية المتعلقة بمفهوم "الزمن"
نستطيع أن نربطه بديهيا بعنصر "الحركة" ، إذ أن انتفاء الحركة يقتضي انتفاء المفهوم البديهي للزمن ، فلا يوجد زمن دون أن يسير في حركة ما .

في الأعمال الروائية تستطيع جيدا أن تتحكم باللحظة الزمنية ، أن "توقفها" وأن تتوسع فيها كيفما شئت ومتى أردت ، بإمكان الروائي أن يستمر في وصف اللحظة إلى ما لا نهاية ، أن يشرح كيف شعرت الشخصية الأولى في اللحظة المحددة ، ثم ينتقل ليشرح كيف شعرت الشخصية الثانية في ذات اللحظة ، ثم يتعمق في وصفها ماديا عبر تكثيف الصور الوصفية للمكان والأوجه والتعبيرات .. كل هذا في لحظة واحدة لا تتحرك ، لكنها متمددة .
في السينما المسألة تختلف جذريا ، الزمن محدود التمدد ، لا تستطيع تكرار الصورة لتشرح جميع ما سبق ، هي محمَّلة بكل تلك الصور التي تستغرق الرواية في وصفها ، إلا أنها تمر دفعة واحدة ، لمرة واحدة .
وهنا يأتي دور الروسي تاركوفيسكي
 
 

 
تحدث الروسي المهاجر في كتابه ( النحت في الزمن ) عن مفهوم " الزمن المطبوع "
ففي رأيه أن السينما حينما تم اختراعها كانت عبارة عن تسجيل للزمن في أشرطة مفرغة ، تستطيع أن تحتفظ بها إلى الأبد ، الزمن أصبح مطبوعا فيها .. هي نفس الفكرة الفسلفية التي تقول بأن اللغة تجسيد للحس .
ولهذا فالمخرج – نظريا – يعتبر " ناحتا في الزمن "
عبارة ساحرة .. أليس كذلك ؟!
في فيلمه ( Stalker – المطارد ) يروي السيناريست الإيطالي تونينو غوييرا قصة جميلة ، كان يسير مع الروسي بجانب المخرج الآخر مايكل أنجلو أنتنيوني ، في مواقع محتملة للتصوير في أوزباكستان .
كان تاركوفيسكي يحمل معه كاميرا البولورويد ، وعندما مروا بجانب ثلاثة شيوخ مسلمين التقط تاركوفيسكي صورة وأعطاها لأحدهم ، نظر الشيخ بدهشة ، ثم قال بفطنة فطرية "لماذا توقف الزمن ؟!"
هل توقف فعلا ؟!
هل الصورة تعتبر توقفا للزمن ، أم أنها اختزال له ؟!
ظل تاركوفيسكي يفكر كثيرا في تلك الكلمة ، يحاول إيجاد منفذ يجسد إمكانية إيقاف الزمن ، حتى لو عن طريق الكاميرا الفوتوغرافية ..
لا أعلم إن كانت الفيزياء تجيز تسمية عملية التصوير "إيقافا" أو "طبعا" للزمن ، ولكن المقصود أن الصورة استطاعت أن "تقبض" على اللحظة ، إنها لا تتحرك ، وبالتالي هي لا تتغير ، إذا فهي تتماهى خارج نطاق الزمن .. تماما كما تفعل الرواية .
هي فكرة جميلة .. لكنها ليست عملية .
أنت لا تستطيع أن تقدم في السينما مجموعة من الصور الثابتة ، يجب أن تقبض على اللحظة متماشية مع حركية الصورة ، وهنا تكمن المناقضة التي لا يمكن حلها .
ولأجل ذلك تحدَّث الروائي والسيميائي أمبرتو إيكو عن السينما وعلاقتها بالرواية ، حينما أشار إلى أن النص الروائي يتولد منه "عبقريات تصويرية" ، لأنها متكررة ، وصفية ، بشكل مكثَّف ، تجعل من اللحظة زمنا كاملا من التعابير والأشكال والصور ..
أما في السينما ، فاللحظة تأتي في صورة واحدة ، لا يمكن الاستمرار في إعادتها ، أو تثبيتها ..
ولهذا كان ناقما على تحويل روايته الشهيرة " اسم الوردة " إلى عمل سينمائي ، لم يتمكن من الارتقاء لمستوى الرواية لعدم قدرته على مماشاتها .
من هنا بالضبط ، ينطلق الفرنسي كريس ماركر .

 
 
قبل كل شيء ، دعونا نتفق على نقطة مهمة : السينما في أساسها صور .. أليس كذلك ؟
مهما حاولنا فلسفة مفاهيم السينما أو التنظير لها ، فإن الحقيقة التي ستظل بديهية للناقد أو المنظِّر أو المشاهد العادي .. هي أن السينما في جوهرها صور .
هنالك الكثير من العلاقات التي تربط السينما بعوالم الإبداع الأخرى ، سواء الأدبية والفكرية التي تبني الجزء المضموني ، أو الفنون الجمالية التصويرية التي تكوِّن علم الجمال السينمائي .. ولكن الفن الجوهري الذي ارتبطت به السينما في أوائل ظهورها هو فن الفوتوغرافيا .
لنأخذ دورة سريعة على بداية تكوين هذا الفن ، نريد أن نفهم جيدا هوية الفوتوغرافيا في السينما أولا ، وفي عمل كريس ماركر ثانيا .
عندما تم اختراع الفوتوغرافيا فعليا في عام 1839 نتيجة مجموعة من المحاولات المنسوبة عموميا للثلاثي جوزيف نيسفور و لويس داجير و ويليام تالبوت ؛ سبَّب نقلة نوعية في حد ذاتها ، وثورة علمية وفنيـة استطاعت أن تصور الحيـاة الواقعية على حقيقتها .. وكما هي ..
نشأ بسببها صراع حامي الوطيس بين مدرستين بتوجهات مختلفة تماما ، المدرسة الواقعية والطبيعية ، حيث شدد الواقعيون على ضرورة الفوتوغرافيا كبديل أساسي وحتمي ، لأنه الريشة الخاصة والمباشرة للطبيعة دون أن يزيِّفها الرسام بأفكاره الخاصة وأطروحاته الذاتية ، أما الطبيعيون فقد اعترضوا على هذه الفكرة وحاولوا تهميش الفوتوغرافيا ، حيث رأوا فيها كما يشير المنظر باندوبولو ( تعبيرا ميكانيكيا محضا لا يرقى إلى مستوى التعبير الفني المطلق المستقصي لغايات جمالية محددة )
الفرنسي بودلير كان له شأن في الصراع حينما قرر معارضته الحادة للفوتوغرافيا ، مبررا ذلك بقوله ( إنني أؤمن بالطبيعة ، ولكنني لا أرى أن الفن هو إعادة إنتاج لها .. إن الخدع التقنية القادرة على إنتاج الطبيعة تجعل من الفوتوغرافيا فنا ساذجا لا أكثر ! )
هذه الرؤية المتطرفة ناشئة من أن الطبيعيين ينظرون إلى الفوتوغرافيا على أنها فن جامد ، يخلو من الحس الإبداعي ، ويقتل الطبيعة حينما ينقلها كما هي تماما ، خالية من روح الفنان ولمسته الفنية ..
فالفن لديهم ذاتيُّ النزعة ، يجب أن يكون للفنان له نصيب في توجيهه وبنائه بالطريقة التي يراها مناسبة .. ولا يظنون أن الفوتوغرافيا قادرة على تحقيق ذلك .
والواقعيون على الطرف الآخر يمتدحون الفوتوغرافيا انطلاقا من أنها انعكاس للواقع ليس إلا ، فهم لا يرون فيها إمكانيات إبداعية ذات أبعاد فنية ، بل لأنها تعكس الواقع بصورته الحقيقية التي تشوهها ريشة الفنان بذاتيته ورؤيته الخاصة .
هذا الصراع له علاقة متأصلة بنظريات الفن ، وهل هو انعكاس للطبيعة أم أن الطبيعة انعكاس له .. عموما لا شأن لنا بذلك .
ظلَّت الفوتوغرافيا تطوِّر نفسها بأساليب جديدة وتقنيات حديثة على مر قرن كامل ، أثبتت فيه أنها قادرة على خلق صيغ تعبيرية شديدة الخصوصية ، إلى أن أصبحت في وقتنا الحالي مزيجا من الصورة الواقعية والفن التشكيلي حينما يتم التلاعب بها عن طريق برامج التصميم الكمبيوترية .
ولكنها أثناء ذلك لم تكتسب الصيغة المميزة التي تمنحها استقلالا فنيا ، وإنما ظلَّت تتوارى في الظل ، بل أنها اندمجت مع السينما ولكن عن طريق تحوُّلها من الصيغة الثابتة التي نشأت عليها إلى الصيغة المتحركة التي قامت السينما على أساسها .
هذا ما نستطيع قوله عن الفوتوغرافيا كفن مستقل .
ولكن لنعد قليلا إلى الوراء ..
كريس ماركر .. هو مخرج ومصور فرنسي لا يمتلك شهرة عريضة أو مكانة كبيرة ، ولكنه رغم ذلك يعدُّ اسما معروفا في السينما الفرنسية ، وأعماله الروائية والتسجيلية تتميز بحس فني عالي المستوى ، وتعمُّق في جماليات الصورة السينمائية .
كونه في الأصل مصورا ، ثم سينمائيا ؛ فقد كوَّن ماركر وجهة نظر شديدة الخصوصية تجاه السينما كفن تصويري ، عكس غيره من أغلبية المخرجين الذين لا يمتلكون علاقة وثيقة بالتصوير كفن قائم بذاته .
هذه العلاقة التي كوَّنها ماركر بين السينما والفوتوغرافيا منحته قدرة كبيرة على تمييز السينما كفن تصويري قبل أن يكون فنا متكاملا ذو عناصر متعددة ، مما جعله يرتبط ارتباطا وثيقا بالسينما "كصورة" ، قبل أن يرتبط بها "كسينما" .
وتجسَّد هذا الارتباط الوثيق في تحفته القصيرة La Jetée التي لا تتجاوز 28 دقيقة ، في عام 1962 .
 

 
قام ماركر بتصوير الفيلم فوتوغرافيا ، فهو كتلة من الصور الفوتوغرافية التي تم جمعها على طول الفيلم ، دون وجود أي لقطة حركية .
عندما تستطيع تحريك الصورة في عمل سينمائي ؛ فلماذا تخاطر بإيقافها ؟!
هذا هو السؤال الذي قد يُطرح على ماركر بعد مشاهدة فيلمه .
والجواب عن هذا السؤال معقد نوعا ما ..
في فيلم ماركر ، تتضح لنا جليا نظرية تاركوفيسكي السابقة : القبض على اللحظة الزمنية عن طريق ثبات الصورة الفوتوغرافية ..
وبالتالي فالفيلم يعمل على مستوى تصويري عالي .. إذ يكشف عن أدق التفاصيل الشخصية ، ويتعمَّق في اللحظة الثابتة التي تمر بها الصورة الفوتوغرافية ، لأن الصور الثابتة تمنحنا فرصة لملاحظة لحظة واحدة عابرة تم القبض عليها بشكل خاطف لتقدم لنا ما نبحث عنه ، صورة واحدة تتحدَّث باختصار متكامل عن لقطة كاملة ، لأن كل الصور تم اصطيادها بطريقة معبرة .. وهنا تمكن صعوبة وبراعة العمل في نفس الوقت .. التركيز على تفاصيل الصورة لتكون ممتدة في عمق اللحظة الزمنية .
أثناء الفيلم ؛ ينشأ ما يشبه الشعور بالحميمية ، حيث أن الصورة الفوتوغرافية لا تتحرك ، وبالتالي فهي خارج نطاق الزمن الحركي ، إنها ثابتة ، وكأنها تنقضُّ على اللحظات الزمنية لتقبض عليها وتقدمها لنا في صورتها التأملية ، مما يشعرنا أننا في منطقة فارغة خارج الزمن .
ولهذا السبب ؛ فإن الصور الفوتوغرافية التي نحتفظ بها من ماضينا ، هي أكثر تعبيرية من تلك المتحركة ، الصورة الثابتة تمنحنا شعورا بالهلامية الزمنية ، وكأننا نخرج من نطاق الحاضر ، وتخرج هي من أوباش الماضي ، كي نلتقي في منطقة لا زمنية ، بعكس الصور المتحركة التي تُشعرنا حركيَّتها بتتابع الزمن .
ماركر قدَّم رائعة سينمائية شاعرية مشبعة بالصور التأملية التي تأخذ بيدنا بعيدا عن حركية الزمن ، ونحو منطقة لا زمنية توافق فكرة الفيلم الذي يتحدث عن الماضي والمستقبل وعن القفز بينهما .
ولكنه في المقام الأول ، استطاع أن يعيد كثيرا من المفاهيم التنظيرية لفن السينما وعلاقته بالدلالات التصويرية وبالزمن .. وهو ما يجعل عمله مهما إلى حد كبير .
 
هذه مقالة من كتابة ( أحمد السعد ) كاتب سعودي هاوي

تابع كل جديد برسالة الكترونيه لـ إيميلك فورا

تابعني على تويتر